منذ رحيل أمل دنقل فجر السبت 12 مايو 3891، وبعد أربع سنوات من منازلة السرطان أسلم الروح وها نحن بعد 82 عاما كاملة نستعيده ونتذكره بفرح بعد الثورة التي طالما حلم بها وكتب عنها قبل أن تلوح في الأفق. ليس غريبا أن نتذكر أمل دنقل، ولكن الغريب والمدهش هو ذلك الاحتفال بذكراه بعد ثلاثة عقود من رحيله، وهو ليس مجرد احتفال بل احتفاء في حقيقة الأمر، ليس فقط بسبب ما قامت به بعض القنوات التليفزيونية أو الصحف والمجلات، بل الأهم هو أن من تذكروه ورددوا قصائده أثناء الثورة هم أجيال جديدة ولدوا بعد رحيل أمل دنقل بعقد من السنين، كيف عبر أمل بشعره كل هذه السنوات وبقي حاضرا معا، فعندما أطلقت بالونة الاختبار مستهدفة العفو عن الرئيس المخلوع جأر الناس بالصراخ مدافعين عن ثورتهم صائحين: لا تصالح، وهي القصيدة نفسها التي رددها الناس بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، ورددوها أثناء المظاهرة المليونية في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق، ورددوها بعد ذلك عشرات المرات، وربما كانت أكثر قصيدة أعيد نشرها في الشعر العربي. وإذا علمنا أن أمل لا تقف وراءه أي مؤسسة أو جهة أو هيئة، وربما أن أغلب هذه المؤسسات - إن لم تكن كلها- وقفت وتقف ضد أمل وشعره، سواء علي المستوي الشعري أو السياسي، فإن صمود أمل كل هذه السنوات يعني شيئا واحدا ان الناس قاموا بحماية أمل وشعره وأصبحوا مسئولين عنه، وحفظوه ورددوه في الميادين والشوارع. صحيح أن زوجته الناقدة عبلة الرويني، ومنذ كتابها العذاب »الجنوبي« عن رحلتهما القصيرة في الحياة لم تتوان عن حراسة شعر أمل والدفاع عنه، وأعدت ببلوجرافيا ضخمة عنه، لكن ما فعلته عبلة- علي أهميته- لم يكن كافيا، لولا احتضان الناس لشعر أمل.. أنا لا أتحدث عن لاعب كرة أو مغني مشهور أو نجم سينمائي، من الطبيعي أن يحتضنه محبوه وأن يعيش في قلوبهم سنوات، لكنني اتحدث عن شاعر لم يتح له المرض أن يعيش معنا إلا 34 عاما فقط، وها هو شعره يعبر الزمن. باستثناء الراحل الكبير صلاح جاهين، الذي عبر ايضا، ومازال يعيش بين الناس وخصوصا بين الأجيال الجديدة بشعره وأغانيه، فإن أمل حالة فريدة، ومن عاصروه مثلي يعرفون كم كان حادا وحاسما ولايعرف أنصاف الحلول وعنيدا لا يخاف إلا من الشعر، لذلك أخلص للشعر علي نحو نادر. وإذا كانت »لاتصالح« تحديدا هي الراية التي يرفعها الشباب وأكرر الذين لا يعرفون أمل وولدوا بعد رحيله بسنوات في الشوارع والميادين والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية والاعتصامات، فإن هناك عشرات القصائد التي مازلت اقرأها وأعيد قراءتها، وبعضها مكتوب عام 7691 مثل »البكاء بين يدي زرقاء اليمامة«، و»كعكة الحجرية« عام 2791 عن اعتصام الشباب الأول في ميدان التحرير واحتلاله لليلة كاملة »42/52 يناير في التاريخ نفسه الذي قامت فيه الثورة«.. الكعكة الحجرية تحديدا هي أيقونة أمل التي استطاع من خلالها أن يمنح اسما آخر للميدان، ومعني آخر لانتفاضة الشباب.. هذا إلي جانب عشرات القصائد في ديوانه »تعليق علي ما حدث« 1791، أو »العهد الآتي« عام 5791، أو »أوراق الغرفة 8« وهي القصائد النادرة في تاريخ الشعر في العالم بلا أي مبالغة بعد أن هاجمه السرطان، وبعضها نشر بعد رحيله. عاش أمل دنقل منذ رحيله عن قريته في أقصي جنوب مصر كصعلوك نادر الوجود ومتشرد ولا يملك إلا شعره، فهو بلا وظيفة أو بيت، يقضي ليلته عند صديق، وإذا توافر المال قضي ليلته في فندق صغير، أما الشعر فكان رفيقه الدائم، ولايملك إلا كبرياءه ورفضه للمؤسسة والمهزومين العاملين دائما في خدمة السادة، أما اختيار أمل فلم يزاحمه أحد فيه، وهو الاخلاص للشعر والشعر وحده. أتذكر، علي سبيل المثال، مشهدا عاصرته بنفسي. كان أمل في ذروة مرضه بالسرطان، ودعي لمؤتمر شعري »أظنه كان عن حافظ وشوقي«، وعندما حل الموعد المقرر لإلقاء أمل لقصائده، تقدم نحيلا هزيلا يخطو ببطء، فأسرع أحد الحاضرين لمساعدته ليصعد الدرج، فما كان من أمل إلا أن دفعه بعنف بعيدا عنه، وصعد وحده ببطء وكبرياء.. هذا هو أمل الذي تذكره الناس، ورفع الشباب شعره رايات لهم في ثورتهم.