هل يموت النخيل؟ هل يموت الذي كان يتحدي العطش؟ هل يتوقف عن الطيران طائر جناحاه بعرض الأفق؟ هل يتوقف عن التغريد عصفور طالما علم الموسيقي الإيقاع وعلم الإيقاع »الوقع« وعلم الغناء الطرب والترنيم؟ هل يتوقف عن العوم والسباحة من علم الموج كيف يكون التجديف والترهيف؟ من علم البحر كيف يصنع شطآنه وعلم الزبد كيف يغزل من ملوحته عذوبة الأحضان التي يستقبل بها أجساد الفتيات فينحني وينثني حول أجسادهن وكواحلهن ومعاصمهن كسوار من الحنان والحنين.. وكيف يلف حول شعورهن حلاوة »غزل البنات«؟ هل يتوقف عن الابتسام من علم الحزن؟ كيف ينثني لجلاله ومن علم البهجة؟ كيف تحترم شقاوته؟ ومن علم الكلام كيف يوقر صمته العبقري؟ هذا هو أبي أحمد الغيطي الذي لم أفهم يوما لماذا أري كل هذا الكون في وجهه. كل هذه البلاد والمدن والبحور في عينيه، ولم يستطع إنسان أن يفرض صورته علي ملامحه، إنه بورتريه خاص جدا بتفاصيل متفردة جدا احترت أن أجد لها شبيها لأنه ربما اختصر كل البشر عندي في هذا الوجه المعروق الطاعن في الزمان والمتجذر في المكان والذي قبل أن يموت زرع السنبلات ولهذه قصة أخري. تركني أبي ردحا من الزمن لجدتي أمه التي ربتني وكبرتني وكانت تضمني كوليدها، كأنني هو.. مثله.. أنا ابنها وهو يعاملني كأخيه ككبير رغم أنني لم أكن قد كبرت بعد. كان يصرخ فيّ أنت راجل أصلب حيلك كده وأنا خف الريشة لا أحتمل كل هذه الأثقال علي كتفي، أنا غرير وزغب حمام كبروني قبل الأوان، ولد أبي أواخر عهد الملك فؤاد وعاش فاروق وتطوع في أكثر من حرب 84 و65، في العدوان الثلاثي كان في بورسعيد يحارب من البحر ولأنه يعرف بل خبير بحر كانت له صولاته في معارك الماء، له صور علقها فخورا بها وهو شاب يسلم علي »ناصر« ويقف أمامه مشدود القامة مهيبا. كان يحكي عن ناصر بعشق وعزة وكان يقول »اسود وش جه علي البلد دي هوه« يقصد مبارك. كان يعشق أهل النوبة وله منهم أصحاب رغم انه دلتاوي بحراوي كيف عانق الشمال الجنوب لا أعلم لكنه أبي.. لم يكن يؤرقه شيء إلا بعده عن محبوبته بلطيم. يتحدث عنها كأنها باريس أو جزر »فيرجن ايلاند« أو فيينا وكان يقول مهما سافرت لازم ترجع هنا. هذه أحسن بلاد الدنيا هل تري بلدا من فوقها بحر وتحتها بحيرة؟ هذه هي بلطيم، وعندما أحاجج وأقول يا والدي فينيسيا حولها الماء أكثر من بلطيم وبيوتها جوه المية كان يصرخ فينيسيا مين وهباب مين بلطيم أحلي. ويتركني ليذهب لزراعة نخلة أو تأبيرها، سر عشقه لزراعة النخل من ألغاز العمر. أما عشقه لطلوع النخلة فهذا ما لم أحط به علما. وعبثا حاولت أن أتعلم منه هذه الهواية المثيرة.. كان يتفوق علي »طلاعين« النخل الخبراء ويعلم أنواع البلح ومواعيد »التدكير« أي تخصيبها علمه بأسماء النوات والشهور القبطية المصرية. حاولت يوما أن أفعل مثله في طلوع النخلة الأم العجوز الكائنة خلف البيت لكني فشلت وسقطت ونزفت وهو ضحك وشمر وقفز في الهواء فإذا به يصعد في خفة ورشاقة كأنه راقص باليه في فرقة البولشوي، أما العوم والسباحة خصوصا في البحر الكبير فحدث عن أحمد وقصص إنقاذه للغرقي تحتاج لكتب. كنت في الثامنة واصطحبني في رحلة »الحصيدة« ببحيرة البرلس والبحر المتوسط ووجد مركبا شراعيا يغرق وفي ثوان قفز ولحقه آخران لكنه كان أمامي البطل المنقذ وهي صورة لم تغب عن عيني وفي الطبيخ كان أحسن من يصنع »الصيادية« يصطاد السمك، وينظفه ويخرط البصل. وفي صبر يضع البهارات ويسوي الصواني ويطعم الجميع للأسف أنا أكره الطبخ جدا.. جيناته الوراثية هذه لم تصل لعندي في السبعينيات لم يعجبه زيارة السادات لإسرائيل وخنقته زحمة البشر في المدينة فتركها وذهب للأرض المهجورة يزرعها ويعمرها، يزرع ولا يأكل إلا من حصاد يده، لم ينظر يوما لما في يد غيره، وكان يقول لي إياك يا ولدي والنظر لما في يد الآخرين. كنت في ميدان التحرير وكانت أمي خائفة علي وتبكي وهو يقول لها في هدوء دعيه هو يعرف ما يفعل، وعندما ذهب في غيبوبة وشلل بعد جلطة في المخ جعلته ذاهلا وينسي من حوله ذات صباح أفاق فجأة وسأل عني وحدثته تليفونيا سألني إيه اللي حاصل ده؟ البلد رايحة فين؟ قلت له »اطمئن كله هايبقي كويس بعد ماراح نظام مبارك«. يبدو ان كلامي لم يشف غليله ولم يرو ظمأه فقال لهم طلعوني عند النخلة. وطلعوه ليحضن بعينيه المشهد الأخير في ملحمة عمره.الزرع والماء وليسند ظهره علي أمه النخلة ويلمس بكفه سنبلاته الذهبية. وبالمناسبة أبي زرع أقل من قيراط قمح حول منزله وعندما سألته لماذا وأنت لن تبيع. الحصاد لا يستحق قال انتو مش فاهمين. ثم جمع أحفاده الصغار جدا وقال: لا تشتروا القمح فالقمح هنا ولا تستعينوا بقواديس الجيران. اطحنوه هنا. وأخبزوا هنا وكلوا وقبل أن تأكلوا وتشبعوا اعطوا بعضا من طعامكم لغيركم.. أبي مات ليزرع نخلة هناك وأنا أراه الآن يبتسم لي ابتسامته المواربة المتسللة بلا وضوح وأري الكون كله في ملامحه صورة لم يقدر بشر أن يطمسها ولن يقدر.. الله يرحمك يا أبي.