في ختام مؤتمر مصر الأول »الشعب يحمي ثورته« الذي دعا إليه الدكتور ممدوح حمزة المهندس والمثقف الشهير يوم 7 مايو وضم مجموعة من العقول الثقات، وثلة من المثقفين والعلماء، والفنانين، والمهنيين المبرزين المتمتعين بتقدير الجماعة المصرية كلها . انطلقت دعوة إلي تشكيل مجلس وطني لحماية الثورة يهدف إلي »الشراكة الإيجابية مع الحكومة والمجلس الأعلي للقوات المسلحة في تسيير أمور البلاد«.. الآن.. حالاً.. فوراً. وأرجو أن يفسح لي الجميع صدورهم لأناقش معهم دلالة تلك الدعوة وتبعاتها التي أتحسب إزاءها جملة وتفصيلاً، ولكن بعض ما يحفزني ويشجعني علي المحاجاة هو ذلك الطقس الذي أفهم معني الحرية في سياقه، والذي افتراضاً يعني الحوار والاختيار الحر بين بدائل، حتي لو جاء الحوار خارج أطر الغرف المغلقة لما تنظمه الحكومة أو المجلس العسكري من حوارات أو ما تدعو إليه تجمعات النخبة كمثل حالة مؤتمر مصر الذي عليه الكلام. وربما يحسن بي عرض أفكاري فوراً حول الموضوع خشية أن تدهمني المساحة، وتضيق عن سطوري بما رحبت. أولاً: الوجه الآخر لدعوة تشكيل المجلس الوطني »من أجل التشارك مع الحكومة والمجلس العسكري« هو الانتقاص بالذات من سلطات المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية، وهو الذي يدير البلاد حائزاً السلطات التشريعية حتي انتخاب برلمان والسلطات التنفيذية حتي انتخاب رئيس، وهي دعوة تكررت بطريق آخر علي لسان الأستاذ الدكتور محمد البرادعي أكثر من مرة قبل مؤتمر »مصر«. وطرح الأمر علي ذلك النحو يظهر وكأنه عمل »تحريري«، ويحاول مطلقوه تحميله قدراً من رطان الثورية لا أظن أنه في مكانه أو سياقه المنطقي. إذ إن القوات المسلحة نفسها أعلنت غير مرة أنها لا ترغب البقاء في الحكم بعد الفترة الانتقالية »حتي مع مطالبات لا ينبغي إنكارها أو تجاهل وزنها من كتاب ومثقفين يرون ضرورة استمرارها لفترة، يتأكد خلالها استقرار البلاد وعودة دولاب السياسة وعجلة الاقتصاد إلي العمل بانتظام«. ثم أن الدفع اللحوح نحو فكرة »مجلس وطني مدني« يتقاطع مع سلطة المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية تعني بنسبة لنا القفز من المعلوم إلي المجهول! فنحن المواطنين خارج قاعة قصر المؤتمرات التي التأم فيها مؤتمر الدكتور ممدوح حمزة نعرف أول المؤسسة العسكرية ونعرف آخرها، كما ندرك الوزن والأرجحية اللذين تمثلهما تلك المؤسسة في الضمير والوجدان الشعبيين، وهو الأمر الذي تأكد تاريخياً لمرات عديدة، لا بل وتوطد في الشارع خلال أحداث ثورة يناير بما لا يدع مجالاً للتشاغل أو التعامي عنه. ولكننا بكثير احترام ومحبة لا نعرف أول وآخر ذلك »المجلس الوطني المدني« الذي دعا إليه حضور مؤتمر »مصر« ولا نعرف علي نحو محدد دلالات معايير اختيار أعضائه كما تم إعلانها »من بين الذين لم يشاركوا في النظام السابق أو في عمليات فساده«، ولا ندري كيف سيكون الاختيار »إجرائياً وبواسطة من«، وهل سيكون الطريق نحو تحديد أعضاء ذلك المجلس الوطني نفس آلية »الشللية« التي صارت نهجاً سائداً في الترشيح والتصعيد لعدد من المواقع الحاكمة في عدد من قطاعات الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي دفع الناس إلي الحديث كثيراً وطويلاً عن اختطاف الثورة، وألقي بظلال عميقة من الغضب والاكتئاب في نفوس أبناء الشعب لا ينبغي لنا إنكارها، أو دفن رؤوسنا في الرمال كي لا نراها. ثانياً: بكثير من تقدير وحب لكل فرد من الذين نادوا في مؤتمر »مصر« بمجلس وطني يشارك الحكومة والمجلس العسكري السلطة، الآن.. حالاً.. فوراً، فإن ذلك المطلب الرئيسي الخطير الذي رفعوه في ختام مؤتمرهم، وصوره وكأنه تعبير عن الشعب، ودفعوا به إلي حافة اعتباره أمراً واقعاً، يقتضي منا طرح تساؤل بسيط بكل أدب وبصوت خفيض عن الطبيعة »التمثيلية« للسادة المختارين لحضور »مؤتمر مصر« يعني بالعربي من يمثلون؟! وأي نصف فاهم يستطيع القول بأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، حتي لو تنادوا إلي تشكيل المجلس الوطني الذي يدعون إليه من مختلف الفصائل والقوي والأحزاب فنحن نسأل عن ماهية الهيئة المرشحة »بكسر الشين« لا ماهية الهيئة المرشحة »بفتح الشين«!! والادعاء المتكرر علي الشعب بأن مجموعة مؤتمر مصر تعبر عنه لم يعد مقبولاً أو مستساغاً علي أي نحو. أي نعم هناك مداخلات وآراء رائعة ترددت في جنبات ذلك المؤتمر، ولكنها تلك التقليدية التي وردت وترد علي ألسنة أصحابها في كل مجالات الظهور والتعبير المتاحة سواء بمؤتمر أو من دون مؤتمرات.. يعني هي آراء أفراد، وفي أحسن الفروض فإن ما تمخض عنه المؤتمر لا يمثل سوي المجموعة التي حضرته، ومن ثم فإن تمرير حكاية »المؤتمر الوطني للتشارك مع الحكومة والمجلس العسكري الآن.. حالاً.. فوراً« لتصبح أمراً واقعاً وكأنها مطلب شعبي هي مسألة لو أذن الجميع لا تمثل سوي السادة الأفاضل الذين حضروا المؤتمر، والذين لم يعينهم أحد أوصياء علينا، والذين أيضاً يبدو مشهدهم وكأنه لمجموعة قررت علي نحو غريب التحول من »جماعة ثائرة« إلي »طبقة حاكمة«، والفارق بين الاثنين كبير جداً وتبعاته خطيرة، إذ لم يتخلص الشعب من استبداد نظام تجاهل رأيه ومطالبه لعقود، ليقع في قبضة بضع مئات من حضور مؤتمر، قرروا هم أيضاً فيما يبدو تجاهل رأي الناس، وطرحوا ما لم يدر الشعب عنه شيئاً، ولا طالب به، واستشعر له ضرورة. ثالثاً: مصر علي وشك انتخابات برلمانية ستفضي إلي اختيار نواب يمثلون رأي الشارع ومزاجه، وهذا ما يقلق المؤتمرين ويدفعهم إلي استباق الانتخابات بذلك الاقتراح، بالعربي.. هم يخشون اكتساح الإخوان المسلمين للانتخابات البرلمانية القادمة فيما أحزابهم تحت التأسيس أو التجهيز أو حتي الأحزاب التقليدية القديمة غير قادرة عبر أي استطلاع بالعين المجردة علي تحصل قدراً معتبراً من تأييد الشارع.. ومن ثم قرر الذين ينادون آناء اليل وأطراف النهار بالليبرالية والديمقراطية والاحتكام إلي صناديق الانتخاب أن يأمموا حق الشعب في اختيار ممثليه ويحيلونا إلي هيكل غامض غير واضح الدلالة بذاته »اسمه مجلس وطني مدني« ويفرضون زمن تحقيقه »الآن.. حالاً.. فوراً«، ولا بأس من دعوة الإخوان إلي مؤتمر مصر ليبدو الأمر اجماعياً، وهو ما رفضه الإخوان ولم يلبوا الدعوة حتي لا يستخدمهم أحد في الإيحاء بأن تأسيس ذلك الكيان هو عمل ائتلافي، فقد عدل الإخوان فيما يبدو عن الائتلاف مع قوي غير واضحة لم يكتمل تشكيلها ولا تتمتع مثلهم بالجاهزية. بالقطع أنا لست من جماعة الإخوان المسلمين، وقد وجهت لها نقداً مريراً لسنوات مطالباً بأن تعلن برنامجاً سياسياً يتضمن التزامها بالدولة المدنية، والمواطنة، والعدل الاجتماعي، فلما فعلت الجماعة ذلك عبر برنامج حزب الحرية والعدالة، وعبر مسودة برنامجها قبل ذلك عام 7002، لا يملك المرء سوي احترام ذلك الكيان السياسي والمطالبة بإعطائه فرصة تمثيل الكتلة التصويتية التي ستمنحه تأييدها فإن كانت الأغلبية فهي له، وإن كانت الأقلية فلا ضرر ولا ضرار، وهذا جوهر الديمقراطية التي قامت ثورة يناير من أجلها. إن محاولة الالتفاف المبكر علي فرص الإخوان في تحصيل ما يمثل وزنهم الحقيقي لدي الناس لو أذن الجميع مرة أخري وحتي لو تمت دعوتهم إلي المؤتمر ليمنحوه شرعية ادعاء الائتلافية، هي فكرة غير »ليبرالية« وغير »ديمقراطية« وتخاصم علي نحو قاس منطق »الاحتكام إلي صناديق الانتخاب«. رابعاً: دعوني أضعها بالشعبية الدارجة علي بلاطة.. منطق الإقصاء، وحجب فرص الحياة والعمل، والمطاردة المتواصلة، والتصفيات البينية كان هو الهاجس الذي تلبس شللاً وزمراً تحلقت حول السلطة السياسية المدنية، لا بل وحول الشباب من ثوار يناير، وقد أنفق فيها الجميع جل جهدهم وطاقتهم منذ نشوب الثورة وحتي اليوم، في طريق يبدو بلا نهاية، خاصة بعد عزل كل رموز النظام السابق ووضعهم رهن العدالة. وهذا الانشغال المرير بالانتقام »الذي أخذ أحياناً صبغة شخصية لا علاقة لها بالثورة أو معناها« حجب عن القوي الثورية الجديدة، وعن المنادين بالديمقراطية في مصر فرصة تأسيس كيانات سياسية وحزبية قادرة علي المنافسة انتخابياً، فلجأوا فيما يبدو إلي تصنيع صيغة تمكنهم من مصادرة السلطة علي نحو غير ديمقراطي، وبيقين فإن حكاية المجلس الوطني المدني الذي يريد اقتسام السلطة مع المجلس العسكري تمثل ذلك »المجهول« الذي يقودنا إلي غياب »الديمقراطية« في حين المجلس العسكري هو »المعلوم« الذي يقودنا إلي العملية الديمقراطية الأولي من نوعها في مصر منذ عقود وعهود. نحن لو سمحتم جميعاً نضع ثقتنا في القوات المسلحة حارسة الثورة، ونحترم في نفس الوقت مثقفينا شريطة ألا يقودونا إلي المجهول الذي ربما يتحرك بعضهم نحوه بحسن نية، وربما مع كثير الأسف يدفع إليه بعضهم بسوء نية!!