كنت اود استكمال حديث بدأته عن اعادة بناء العقل المصري سياسيا وثقافيا، تأمينا للحوار الوطني الواسع المرتجي والذي اقترحته مدخلا صحيحا للاجماع الوطني، الاهداف والوسائل. وقد قطعت هذا الحديث بمقال الاسبوع الماضي الذي كررت فيه إلحاحي علي مشاكل مرحلة الانتقال وخاصة استئصال النظام القديم من جذوره وبحسم. وهو الامر الذي جرت عليه تحولات مهمة وسريعة في الايام الاخيرة وخاصة تجاه اكبر رؤوس هذا النظام والتي كان وجودها طليقة مصدرا »كبيرا« للتوتر.. وهو ما بدأ ينحسر بما يؤكد صحة ما ألححت فيه انا وغيري.. ولحسن الحظ فقد صاحب ذلك ايضا انكشاف وجه البلطجة والتآمر فيما جري بميدان التحرير فجر السبت الماضي من محاولة الوقيعة بين الجيش والشعب.. وعمت حالة من الراحة والامل بعد تطهير الميدان يوم الثلاثاء بأيد طاهرة من الشباب والجيش ومع نزع غطاء اللؤم والخداع الرخيص امام الجميع.. المهم.. كان من المناسب ان أبدأ بعد هذا في العودة الي استكمال الحديث عن احياء العقل المصري.. غير اني اؤجل ذلك ثانية لاعرض لبعض النقاط، تبدو لي ايضا عاجلة. اولها: انه يجب الا يتوهم احد بامكانية انكسار هذه الثورة او حدوث ردة، وهو هاجس سيظل يجد من يحركه وبرغم كل ما تحقق حتي الآن لكنه مستحيل.. برغم ان الوقت والطريق قد يطولان بنا.. وقد ندفع ثمنا اكبر علي مستويات عدة نتيجة للملابسات التي نعاني منها الآن والتي لا مفر من ان نتجاوزها ثقة في جوهر الشخصية المصرية.. التي تملك فطرة قوية خلقتها خبرة طويلة مع توالي العصور.. تجعلها الآن قادرة علي التعلم بسرعة امام ما تواجهه الثورة من عقبات او تآمر.. وستكون اكثر قدرة بعد ازالة الركام عن وجهها وهو ما دعاني الي فتح ملف احياء التنوير. ولكن أنا بصدد هذا الملف بدأت تطفو علي السطح نغمة شائهة للتشكيك في هذا الشعب بل والطعن في صلاحيته للحياة والحرية. وان كانت نغمة قديمة طمرتها الثورة بقيامها بيد الشعب برغم ما جري بعدها من التباسات وتآمر استغلت ركام العقود الماضية فوق وعيه. وفي ضوء محاولة الوقيعة بين الجيش والشعب تصاعدت هذه النغمة في بعض الكتابات والمواقف.. لينتقل التشكيك في الثورة الي التشكيك في الجيش.. الي التشكيك في الشعب نفسه.. وهو الامر الاخطر الذي يفتح باب الرياح السموم في وقت احتضن فيه الشعب هذه الثورة بعد انطلاق طليعتها الشابة.. وتقدم الجيش لحمايتها.. ومن هنا يكون هذا التشكيك منسحبا علي الصورة بكاملها في وقت تثبيت الاقدام والقلوب ولست بهذا أدعو للمصادرة علي رأي.. او انني عدو للديمقراطية.. ولكني اراهن ايضا علي هذا الشعب الذي يُطعن في ولائه واحقيته في الحرية.. اراهن علي قدرته علي لفظ مثل هذه النغمة.. فوسطية الشخصية المصرية تتضمن بالضرورة روح الانصاف والعدالة علي المدي الطويل.. ولم يحدث ان شوه الشعب تاريخه النضالي او تنكر له عند الاختبار. ومازال زعماء الحركة الوطنية في موقعهم من ضمير تلك الامة مازال احمد عرابي وسعد زغلول ومصطفي النحاس وجمال عبدالناصر ومن سبقهم ممن أعطوا وضحوا حتي النهاية.. مثلما كان يدرك هؤلاء الرموز ايضا اهمية الشعب وتاريخه في صنعهم.. وهي المعادلة التي ضمنت لهذه الامة البقاء علي مر العصور دون فقد جوهرها او وجودها ذاته. الحمل غير كاذب والآن وبعد الاجراءات الاخيرة.. التي تؤكد الميلاد الحقيقي القاطع في 31 ابريل 1102.. والذي اعتبره اليوم التالي لمعجزة 52 يناير 1102 فان محاولات الوقيعة بين الشعب والجيش صارت ابعد منالا لمن كان يبتغيها بالداخل او بالخارج.. وان لم يمنع ذلك من استمرار المحاولات.. وخاصة من عدو تاريخي مثل اسرائيل.. ولن يمنع ذلك ايضا من ان نظل في حوار بناء مع المجلس العسكري والحكومة حوار يحتمل الاتفاق والاختلاف حتي نصل الي ما نطالب به من اجماع وطني يمثل الجميع حول الاهداف والوسائل.. ولن يمنع ما نقوله من تأكد الحمل والميلاد ان الطريق طويل وشاق يتطلب التحمل والجهد.. وان ثماره قد لا يتمتع بها الكثير من جيلي.. وانها من نصيب ابنائنا واحفادنا فالامر.. امر ثورة.. تغيير جذري نحو عصر مختلف تماما عما كنا عليه وما واجهناه طوال عصور.. واذا كان ما أدعو اليه من احياء لحركة تنوير جديدة بين صفوف الامة.. فاني ادعو النخبة وهي بالتأكيد طليعة في هذا الدور- ان تتحلي بقدر كبير من الصبر والتواضع وعدم ادعاء احتكار الحقيقة او الحكمة وذلك في حوارهم معاه او مع الجماهير.. لان ذلك قد يعني ان المستقبل رهين بوجودهم هم او رؤاهم فقط.. بل عليهم ان يتأملوا درس البداية في انبثاق هذه الثورة ثم انطلاقها.. باختصار.. المستقبل رهين موقف الامة ونفض الغبار عن وعيها لتأكيد قدرتها علي الفرز والاختيار.. وبالتالي صنع القرار الصحيح بارادتها.. واستمرارها في حماية هذا القرار.. وهي في ذلك لا تعتمد فقط علي دور النخبة معها او شباب الثورة.. وانما علي الخبيئة المطمورة في عمق الشخصية المصرية عبر عصور. ليس كل الكلام.. كلاماً! قد يبدو هذا لبعض المستهزئين بقدر هذا الشعب المنتمين اليه رغم ذلك بحكم فضله عليهم علي الاقل- يبدو لهم لغوا.. ولكني سبق ان سقت مثالا في مقالي الماضي يتعلق بثورة 9191.. وكيف اكتملت دائرة التغيير وترابطت عناصرها داخل ضمير الامة حين أضاء بوعي سياسي وضحنا اسبابه وارتباطه بحركة التنوير الممتدة من فترات قبل الثورة.. فاستطاعت الامة ان تجمع الحقيقة من اطرافها- حقيقة التغيير الجذري- حيث الحركة الوطنية للتحرر تولد بجانبها حركة للتحرر الاقتصادي وحركة لتحرير المرأة المصرية المرتبط بتحرير الرجل والوطن.. وانسحاب هذا التحرر الوطني والسياسي والاقتصادي علي التجديد في الفكر والثقافة والفنون جميعا. وأعود بعد هذه الملاحظات السريعة إلي وصل ما انقطع من حديث عن احياء التنوير، وهو ما يقتضي ان نستحضر اولا بعض رموز التنوير في الماضي القريب بمصر فيما يتبع. هوامش: - من وزارة الفريق احمد شفيق إلي وزارة الدكتور عصام شرف.. ومازال يثقل علي نفسه وعلينا بدور ضرره أكثر من نفعه. مع كامل الاحترام.. إكرام الرجل.. راحته. - شباب الثورة وطليعتها المضيئة أمامكم دور كبير في الجهاد الاكبر.. بناء الدولة المدنية العصرية وتلك ميادينها اوسع من الميدان الرمز. - طالبت كآخرين.. بحل الحزب الوطني وتحفظت علي اي مشاركة سياسية لكل اعضائه حتي نؤمن علي اكتمال مهام الثورة تماما.. فاذا بي أسمع نكتة لا اريد التعليق عليها!