من الطبيعي بعد ثورة 52 يناير ان تطرأ علي حياتنا تغييرات جوهرية في الفكر وفي السلوك، وفي ادارة المشكلات والازمات.. واذا اردنا شعبا وحكومة ان نرتفع الي مستوي الثورة وطموحاتها، علينا أن نحسن الاختيار وفق معايير واضحة ومعلنة عند تعيين القيادات في جميع مواقع العمل الوطني بدءا من رأس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والمحافظين ورؤساء البنوك ومؤسسات التجارة والصناعة والزراعة والاعلام ورؤساء المدن.. بحيث تكون هذه المعايير معلنة للناس جميعا، فلا يتولي الامر فينا جاهل، او فاسد، او مرتش او متراخ، والغريب ان ما اقوله، كان البيان الاول المبرر لقيام ثورة 32 يوليو 2591 والذي اذاعه الرئيس الراحل الشهيد محمد انور السادات بصوته عبر اثير الاذاعة المصرية فور قيام الثورة وسقوط النظام الملكي السائد في ذلك الوقت، ولا ادري لماذا اختفي هذا الشعار.. ولو تمسك به الشعب، لتضاءلت السلبيات والتي توحشت بعد ذلك.. ولأصبح الحاكم خادما للشعب، وليس الشعب خادما للحاكم.. ولتغير حال الناس الي الافضل.. ان من حق الرأي العام ان يكون علي بينه من هذه المعايير فيعرف الاسباب التي ادت الي اختيار هذه القيادات وما هي مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم الميدانية، وان تكون ذمتهم المالية معروفة، قبل الاختيار.. وعندما يترك المسئول موقعه، من حق الناس، ان يكونوا علي معرفة حقيقية عن اسباب الخروج سواء بالاستقالة او بالاقالة، وقد تعودنا علي مدي اكثر من 05 عاما ويزيد فلا احد يعلم لماذا جاء هذا المسئول، ولماذا خرج وكأن الامر لا يعني الا صاحب العزبة او الضيعة وتظل الاسئلة لا تجد من يجيب عليها هل تم الاستبعاد لعجز في الاداء ام لقيامه بنهب ثروات الشعب، من تملك الاراضي والعقارات وهو في كرسي الحكم، واذا كان مدانا.. هل يترك حرا طليقا، يفوز بالغنيمة دون عقاب رادع ام تسترد منه الاموال ويقدم لمحاكمة عاجلة بتهمة خيانة الامانة والمسئولية. وفي غيبة المعلومات الصحيحة تكثر الشائعات بالحق والباطل، وتنتهك الحرمات ويلوث الشرفاء. ومن ناحية اخري يجب ان تنتهي الوعود البراقة التي يطلقها رئيس الوزراء والمحافظون من وقت لاخر التي لا تتحقق علي ارض الواقع.. ولا نجني من ورائها سوي التخلف وكثيرا مانسمع تصريحات للوزراء بأنهم سيعملون علي مواجهة التحديات التي تعوق مسيرة العمل الوطني، دون تحديد واضح لها واولويات التنفيذ والبرنامج الزمني للخلاص منها.. هل التحديات تتمثل في اعادة الانضباط الي الشارع وتحقيق الامن والامان للبيت المصري الذي أصبح هاجس غيبة الأمن في الشارع مقلقا للناس جميعا، والانفلات الاخلاقي الصارخ في الشارع المصري. هل في توفير الغذاء غير المسرطن، وتوفير كوب ماء نقي لمن حرموا منه لسنوات طويلة.. ام في اقامة شبكات للصرف الصحي لسكان القري والنجوع، التي أصبحت أحد مصادر التلوث وانتشار الأوبئة والأمراض القاتلة.. او في التوسع في استصلاح الاراضي أو اقامة محطات توليد الكهرباء لتوفير الطاقة اللازمة لادارة مصانع جديدة، او.. او الي اخره، من متطلبات الحياة الحرة الكريمة للمواطن فقيرا او متوسط الحال او غنيا، فالجميع ابناء وطن واحد.. شركاء في الأمل والمصير والألم وليسوا رعايا أو عابري طريق.. وإلا تحولت هذه التصريحات إلي دخان في الهواء اذا لم تجد طريقها الي التطبيق السليم. ويصيب الناس بضيق الصدر، وصعوبة التنفس، أو مجرد مسكنات لتخدير الرأي العام. وكثيرا ما اسأل نفسي لماذا يتكلم المسئولون عن المرحلة القادمة ولا يتكلمون عن المرحلة الحالية التي يعيشها الناس.. وبسببها قامت ثورة الشعب في 52 يناير.. وهذا يذكرني بحكاية طريفة، اطلقها جحا ذات يوم وما اكثر نوادره.. وان تفوقت نوادر الحكومة علي هذا الفيلسوف الشعبي، فقد اطلق طرفة، والغريب انه صدقها، عندما قال جحا للناس، وهو يمشي في الاسواق، ان غدا، يصبح كل شيء مجانا، الغذاء، والعلاج، والعمل، هكذا قال الحاكم.. وكان جحا أسبق الناس لأخذ احتياجاتهم مجانا كما جاء في بيان الحاكم.. واذ بجحا والناس يسمعون مندوب الحاكم يقول لهم: ليس اليوم.. وانما غدا.. وظل جحا والناس في انتظار الغد الذي لا يجيء ابدا في الوقت الذي يظل فيه الحاكم وحاشيته ينهبون ويسرقون امس واليوم وغدا ويظل الناس في حرمان وفقر وجهل ومرض. وفي يقيني ان مرحلة ما بعد 52 يناير ينبغي ان تشهد تغيرا واضحا في اسلوب العمل وفي التخطيط لبناء الدولة المدنية الحديثة التي توفر للمواطن الحياة الكريمة.. مرحلة تتطلب فكرا جديدا بعيدا عن الجمود الذي عشناه طويلا خوفا وطمعا.. خوفا من القهر، أو طمعا في ذهب المعز وعطاياه. والفكر الجديد يحتاج الي قيادات من نوع جديد يكون اهتمامهم الاول والاخير العمل الميداني الجاد، وسط الجماهير، مصدر السلطات، اكثر من اهتمامهم بالمواكب التي تصاحب كل حاكم في »روحاته وجياته« محاطين بزفة فارغة من محترفي تنظيم هذه المواكب المستفيدين من بقائها واستمرارها. إن مرحلة ما بعد 52 يناير تتطلب قيادات تجمع بين العلم والخبرة وفن الادارة، تمكنهم من التواصل مع الناس في اطار من الالفة والمودة، والقبول، قيادات تجمع ولا تفرق وان يكون عملها وفكرها لخير الناس.. والمواطن الذي يشعر بالالفة مع المسئول، وانه جاء لخدمته والنهوض بمجتمعه، لا متعاليا عليه، وانه منهم ولهم.. في هذه الحالة تزداد ثقة المواطن به ويصبح مشاركا ايجابيا في البناء والتعمير وفي حل المشكلات لن تسمع من هذا المواطن كلمة »وانا مالي«.. ولن يشعر المواطن بعد 52 يناير ان حياته قد طرأ عليها التغيير نحو الافضل، واخذت في التحسن التدريجي في التعليم والصحة والامن.. الا اذا وجد القدوة والسلوك الكريم من كل مسئول، اياكان موقعه.. والاماني لا تحل بالخطب الرنانة والوعود البراقة، ومن المؤكد ان العمل النافع والتنمية الصادقة والفكر المتميز المستنير والجهد المبذول من الناس جميعا، حكاما ومحكومين، سوف يكون محل رضا من الله سبحانه وتعالي يبارك جهودهم ويرشدهم الي الطريق الصحيح لبلوغ الاماني.. وتظل هذه الاعمال راسخة في ضمير الناس وشعلة مضيئة لا تطفئها الاعاصير، وتقلب الايام والسنين. وحتي يكون العمل نافعا ومنتجا، فان الامر يتطلب وضع آلية تقيس كفاءة اداء كل مسئول كل عام، فيثاب المجتهد ويحاسب المقصر، ولا احد فوق المحاسبة او المساءلة، بذلك نضمن حيوية الاداء واستمراره ودقة التنفيذ، فاذا كان المسئول منتجا يصعد الي منصب اعلي.. واذا ثبت تقصيره، ابعد عن موقعة، وعليه ان يبحث له عن عمل يتناسب مع قدراته، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها.. وان يتم هذا التقييم في اطار من الحق والعدل، والشفافية المعلنة، بذلك يشعر الناس، ان حياتهم بعد ثورة 52 يناير لها مذاق خاص.. وإلا ... والباقي مفهوم.. ( !! )