حين ننظر إلي ظاهرة الطلاق في التاريخ الإسلامي نجد أن ثمة علاقة بين الحكم الفقهي وبين ظروف العصر. في صدر الإسلام مثلاً لم يكن هناك عدد محدد لمرات الطلاق. أورد البغوي في تفسيره للآية الكريمة ( الطلاق مرتان ) عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولاعدد، وكان الرجل يطلق امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها، ثم طلقها كذلك، يقصد مضارتها، فنزلت الآية (الطلاق مرتان) يعني الطلاق الذي يملك الرجعة عقبيه مرتان، فإذا طلق ثلاثاً فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر » فالتشريع منذ اللحظة الأولي إذن نزل ليعالج مشكلة اجتماعية قائمة. ثم كان الطلاق علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، يحسب طلاق الرجل لزوجته ثلاث طلقات في المجلس الواحد طلقة واحدة، حتي رأي عمر أن يشدد علي الرجال فقال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم.. فأمضاه عليهم، أي جعل قول الرجل لزوجته أنت طالق ثلاث مرات في مجلس واحد طلاقاً نهائياً لايجوز رجوع المرأة لزوجها بعده إلا إذا نكحت غيره. وظل هذا الاجتهاد معمولاً به حتي العصر المملوكي حين جاء ابن تيمية فخالف عمر وتمسك بقوله تعالي ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) ورأي أنه لايجوز للرجل في المجلس الواحد أن يطلق زوجته أكثر من طلقة واحدة، وأن الطلاق يكون باطلاً في حالة الغضب، أو إذا كانت الزوجة حائضاً. ورأي ابن تيمية في الطلاق مشهور، فليرجع إليه من يشاء. المهم أن السلطان وقتئذ خيّر ابن تيمية بين الرجوع عن رأيه في الطلاق أو السجن فاختار السجن، وهذا يبين أن التغيير ليس أمراً سهلاً، وأن صاحب الرأي الجديد لابد له أن يدفع ثمن رأيه غالياً، لأن القوي المحافظة لاتتراجع بسهولة عما تؤمن به. لكنه يبين أيضاً أن باب الاجتهاد مفتوح في قضية الطلاق طبقاً لظروف العصر في أيامنا هذه عاد موضوع الطلاق للظهور بعد أن ارتفعت نسبة الطلاق لدرجة مزعجة. وهناك خلاف بين الفقهاء حول الطلاق الشفهي هل يقع أم لا، فيري الأزهر أنه يقع، ويري فريق آخر يتزعمه الدكتور سعد الهلالي أنه لايقع. ولاأريد أن أدخل طرفاً في هذا الخلاف، لكني أود أن أضيف شيئاً ثالثا، تطبقه تركيا. ففي تركيا لايتم الطلاق إلا أمام المحكمة وبحكم من القاضي، ولا يكتفي القانون التركي بمجرد التوثيق. وقد سبق الإمام محمد عبده الأتراك حين أفتي بأنه » إذا اشتد النزاع بين الزوجين، ولم يمكن انقطاعه بينهما بطريقة من الطرق المنصوص عليها في كتاب الله تعالي، رفع الأمر إلي قاضي المركز، وعليه عند ذلك أن يعين حكمين عدلين.. فإن أصلحاهما فبها وإلا حكما بالطلاق ورفعا الأمر إليه، وعليه أن يقضي بما حكما به، ويقع التطليق في هذه الحالة طلقة واحدة بائنة » ويقف قاسم أمين موقفاً وسطاً بين من يرون التطليق أمام القضاء وبين المنادين بالتوثيق فقط، إذ وضع نظاماً للطلاق في كتابه » المرأة الجديدة » يقترح فيه ألا يقع الطلاق إلا أمام القاضي أو المأذون. وألا يتم الطلاق لمجرد الرغبة فيه، بل لابد أن يسبقه النصح، وإعطاء مهلة للتفكير، ثم تعيين حكمين للإصلاح بين الزوجين، فإذا فشلت هذه الجهود أصدر القاضي أو المأذون حكمه بالطلاق. وقال بصريح العبارة » لايصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين، ولايقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية » إن فكرة التطليق أمام المحكمة تستحق الاهتمام ونحن نبحث عن رأي فقهي عصري لمشكلة الطلاق، خاصة أن صاحبها هو الشيخ محمد عبده، فهل نضعها في اعتبارنا أم نرفضها هي الأخري؟