لا يوجد ما هو اجمل ولا أروع من جولة في شوارع وسط البلد حيث القاهرة الخديوية الساحرة »باريس الشرق» بكل ما فيها من روعة في المباني وفخامة في التصميم وكأنك تشاهد قطعة فنية، وكلما راحت عيناك تشاهدان العمارات شامخات تعانق السحاب، وقد زادها بهاء فوق بهاء إعادة ترميمها وبياض واجهات مبانيها وقبابها وزخارفها والتماثيل التي تعلقت بواجهاتها وكأنها تعانقها في حب أبدي لا يفني إلا بفناء الاثنين. كل ذلك البهاء وسحر الزمن الجميل بكل جماله وأصالته وعراقته قد يذوب إذا صعدت إلي سطوح واحدة من تلك العمارات، فسوف يتحول الانبهار إلي انكسار، والسحر إلي قبح المشهد، وتجد الفخامة وقد تحولت فجأة إلي اكوام القمامة، وتود لو لم تصعد إلي »السطوح»، أو اغلقت عينيك واكتفيت بسحر الواجهات فسوف تجده مفروشا بقطع الاثاث القديمة التي خرجت أحشاؤها وتناثرت قطعها، وكلك قطع متناثرة من الاوراق وجرادل بلاستيكية بالية مكسورة استغني عنها أصحابها، وعشش للطيور من كل الانواع وكذلك بيوت للكلاب، فيما تناثرت بقايا الطعام، وقد انشغل الذباب بحفلة حولها، ناهيك عن الحشرات الأخري والقوارض التي وجدت فيها مسكنها المفضل وملعبها المفضل، ويسقط الجمال أمام كل ذلك القبح، وكلما ارتفعت في طوابق العمارة وكلما مددت بصرك إلي العمارات الأخري اصابتك الصدمة، فلن تري سوي خرابات ومقالب للقمامة، بعد أن تحولت أسطح تلك العمارات إلي »خرابات مصغرة» من تلك التي نراها علي الأرض في الاحياء الشعبية، وكأن هناك من جمعها من الشوارع وصعد بها فوق السطوح. يحدث ذلك برغم الجهود المبذولة من قبل الحكومة والمبادرات الخاصة لتوعية المواطنين بضرورة الحرص علي النظافة، واستغلال أسطح المنازل في الزراعة الرأسية اقتداء بالتجربة الماليزية التي حققت نجاحا باهرا واستطاعت الحكومة الماليزية توفير كميات هائلة من محصول الأرز من خلال زراعته علي الأسطح، والاهم تحويل الأسر من أسر مستهلكة إلي أسر منتجة. وتعالوا نسمع مبررات السكان عما يحدث فوق سطوح بيوتهم التي في وسط البلد، والتي تنتمي شكلا لعائلة »باريس الشرق»، فكما يري أحمد صبحي 58 سنة موظف وأحد قاطني ميدان الفلكي، فسكان العمارة يحتفظون بكراكيبهم علي السطوح بحكم التعود: »المواطن المصري اعتاد علي ذلك منذ الصغر، ولا يفكر أحد في رميها في صناديق القمامة المخصصة فربما يحتاجها بالمستقبل»، وفي المقابل تؤكد لنا جرمين ميخائيل 30 سنة وتعمل مدرسة أن سبب تواجد هذه الخرابات فوق أسطح المنازل هو افتقاد روح العمل والتعاون بين سكان العقار الواحد والكسل والوخم بين الشباب، وتشير إلي أن عشقها للزراعة قد دفعها إلي زراعة شرفة منزلها بالورود وبعض الخضراوات، وتقول: »علمت ابنتي الصغيرة »جولي» زراعتها». وتؤكد لنا نفس المعني مني السيد 50 سنة ربة منزل وتقيم بإحدي العمارات بشارع يوسف الجندي فخمول الناس في ظنها هو السبب الرئيسي في إنشاء تلك الخرابات أعلي أسطح المنازل والتي تحولت إلي سلاح ذي حدين، فهي تحفظ ذكريات من لا يريدون الالقاء بأثاثهم، أو تكون مصدرا سريعا للحرائق، وكما تقول : »لابد علي كل أسرة تعليم أطفالها الزراعة منذ نعومة أظافرهم ليحيا جيل جديد يدرك معني وقيمة الزراعة في ظل توغل ذلك الوحش الأسمنتي علي الأرض». يتدخل في الحديث محسن فوزي 28سنة حاصل علي دبلوم زراعة ويقيم بمنطقة إمبابة، ويقول : لماذا لا يفعل سكان كل الأحياء مثلي وليس في وسط البلد فقط، ويقومون بزراعة السطوح ببعض الخضراوات والورقيات علي شرفات البيوت كما فعلت في بلكونة منزلي التي تقع بالدور الثاني، وابيع جزءا منها لجيرانهي بأسعار زهيدة، ويقول: »المشروع لا يحتاج إلي الكثير من الأموال ولكنه يحتاج إلي صبر وعمل خاصة من الشباب».