نظلم كثيرًا الكاتب «عبد الرحيم كمال» حين نحصر دوره في الدراما العربية بأنه «إحياء دراما الصعيد»، فهو كاتب: « شيخ العرب همام»، «الخواجة عبد القادر»، «دهشة»، وله في رمضان هذا العام «ونوس»، و»يونس ولد فضة». ولأن «ونوس» يحتل الصدارة بين العملين في المراجعات النقدية، لايأخذ «يونس» حقه، كمالم يأخذه في المسلسل نفسه (حتي الآن؟) ويبدو أن الكاتب نفسه قد تخلي عن إبهارنا بتقنيات الصورة، علي غير عادة «سيناريوهات» مسلسلاته، خاصة «دهشة» (الذي كتبت عنه العام الماضي)، لينقلنا إلي ما ظن بعض نقادنا أنه تقديم «الصعيد» المتمدين، الذي يستخدم وسائل الاتصال الحديثة من «نت» و»واتس آب»....إلخ. لكن التمدين لاينفي استمرار التقاليد القديمة للصعيد من «ثأر»، و»شرف»..إلخ. وهذا الازدواج هو الخيط الذي لم يفلته الكاتب من يده قط. حبكة المسلسل تبدو بسيطة، أم تموت، ثم أب يترك بعدها ولدًا وبنتين، يحاول ابن أحد الأثرياء اغتصاب إحدي البنتين، فيهاجمه الأخ انتقاما لشرفه، لكنه يخطئه ويقتل أباه، ويهرب الطفل «إبراهيم» من القرية، وتتشرد البنتان.في بيت آخر كانت تدور حكاية موازية لزوجة «ثانية» لأحد «الكبراء»، تنجب له ابنا «يونس»، يموت الابن (أو يقتل؟) ويقرر الزوج تركها فتُدبّر قتله، في اللحظة نفسها يلوذ «إبراهيم» ببيتها أثناء هربه، فتفكر في أن تحله محل الابن الميت، وتذهب به إلي أهل الأب، بهوية مزيفة بعد أن صار «يونس ولد فضة»، ليحتل «إبراهيم» مكان «يونس»، وليصير غريبا بين أهل لايصدقون، أيضا، أنه من صلب أخيهم الأكبر، هو و»فضة»يتكتمان سر «الهوية المزدوجة» هذه؛ «إبراهيم» الباحث عن أهله، وذاته، في بلدته القديمة، و»يونس»، النبتة الغريبة المزروعة في أرض ليست له، محوطا بكراهية أهل ليسوا أهله. النهاية لانعرفها بعد، وليست هي الأهم، فتأمل نسيج هذا العمل أهم بكثير من ملاحقة نهاية أحداثه، وتأمل عدول المؤلف عن استخدام اللوحات السينمائية المتتابعة، كما فعل في أعماله السابقة، ليس عفو الخاطر، فنحن هنا إزاء عملية إحلال أخري، للحكاية الشعبية، وللراوي الشعبي، وللمتلقي الجالس يستمع إلي المنشد علي الربابة، يحكي له سيرة «أبي زيد الهلالي»، مثلا، إلي كاتب الدراما وهويكتب نصا لمتلق لايعرفه، في مكان لايعرفه، لكنه، في الوقت نفسه، يلعب علي مخزونه الوجداني المليء بالحكايا القديمة، ويراهن عليه. المغامرة محفوفة بالمخاطر، لكنها تستحق، إحياءً لدور المنشد القديم، يخلب أسماع الجالسين حوله، ويرتجل ويضيف للحكاية القديمة، والمغامرة هي نقل هذا المخزون لوسيط تكنولوجي، مرئي، لكن لامفر، فلا أحد يجلس الآن أمام المنشد، ينصت إلي الربابة، بل نتحلق جميعا، أبناء الصعيد والمدن، أمام «التليفزيون»أو «اليوتيوب» نحمل بداخلنا الحكايات القديمة، تراث أجدادنا، ونشاهد «تغريبتنا»:ما بين أرضنا القديمة بتراثها وحكاياتها وتقاليدها، وأرض التكنولوجيا المزروعة فيها مجتمعاتنا كنبتة في أرض غريبة، قُطِع حبل سرتها بماضيها وحكاياتها، فلاهي ابنة «شرعية» للتقنيات الحديثة، ولاظلت ابنة هذا الماضي، نشاهد بهوية مزدوجة، كالقصتين المتوازيتين اللتين يفتتحان المسلسل،رهان الكاتب، يحمل إلينا هذا الماضي، عبر وسيط حديث، ليذكرنا بأننا لا نشبه»يونس» فقط، وإنما «إبراهيم» أيضا، ليذكرنا «بالفصام» و»الفطام» و»الازدواج» الذي نحيا فيه، ويحيا فيه «إبراهيم» الذي «صار «يونس»، وأنجب «إبراهيم» الذي يلتصق به التصاقه بهويته المفقودة القديمة، بعد أن صار «وِلد فضة»، أو «ولد خضرة» في «السيرة الهلالية»، التي تمنت أن تنجب طفلا يشبه،في قوته،طائرًا أسود، فلما أنجبته اتهموها بالزنا مع عبد أسود، وطردوها من منازل هلال، فعادت لتطالب بحق ابنها في مال أبيه، أو «يونس» : «في بلاد الشوق/ أياولد الهلالية/ بتونسني دموع العين/ وأنا تارك أهاليا»، في حكاية «عزيزة ويونس»، كما كتب الأبنودي، وغني منير، مجسدا سؤال الدراما: «وده حب إيه ده اللي من غير أي حرية؟!» (وللحديث بقية)