كان الأجدر الاستفادة بخبرات المتخصصين أو الاستماع إليهم بجدية بدلاً من تقديم البلاغات ضدهم، فملف سد النهضة لا يحتمل الإبطاء أو الخطأ والشخصنة. هل كان سيناريو القبض علي رجل الأعمال صلاح دياب وابنه من قبيل «قرصة الودن» سيراً علي مقولة اضرب المربوط يخاف السايب؟ هل كان رسالة أو جرس تنبيه لباقي رجال الأعمال في مصر؟ أم أنه كان نوعاً من تصفية الحسابات كما يردد البعض؟ قد يلاحظ القارئ أنني استبعدت احتمال أن تكون الاتهامات التي وجهت إليه حقيقية أو موضوعية وهذا صحيح. لماذا؟ لأن مشهد «التجريس» الذي صاحب عملية المداهمة، لا يليق أو يكافئ طبيعة الاتهامات الموجهة للرجل بصرف النظر عن صحتها من عدمه. كما أنه إجراء غير معهود في مثل هذه الحالات إلا إن كان مقصوداً به إثبات أداء المهمة علي الوجه المطلوب. وحتي هذا الاحتمال يثير التساؤل عن الجهة أو الطرف المراد إرضاؤه بتصوير الرجل والقيود في يديه. لاحظ أن عملية المداهمة ذاتها لم تنشر لها أية صور علي الأقل لتطمين الناس والرأي العام علي أنها تمت بشكل قانوني دون تجاوزات أو انحرافات. لاحظ أيضا أنه لم تنشر صور الأسلحة المضبوطة في المكان لتسويغ عملية المداهمة التي يراها كثير من الناس مخيفة ومثيرة للقلق. ثم أن الإفراج السريع عن الرجل سواء كان ذلك بتدخل الرئيس شخصياً أو غير ذلك يؤكد أن خطأ ما كبيراً قد حدث حتي لو كانت الاتهامات الموجهة له حقيقية. وهذا الخطأ يشير إلي أن أجهزة الدولة المختلفة تعمل كجزر منعزلة بلا تنسيق أو سياسة، وأنها مطلقة اليد بلا رقابة تحكم عملها. لن أخوض هنا في حقيقة الاتهامات الموجهة لرجل الأعمال فهذا شأن القضاء، ولأنني - من ناحية أخري - لست من جمهور المدافعين عنه، ولا من جمهور الشامتين فيه. ولن أساير موجة التخويف من المساس برجال الأعمال بحجة حماية الاستثمارات والحفاظ علي الاقتصاد المتهاوي. لأن هذا الهدف علي ضرورته ونُبله لا ينبغي أن يغض بصرنا علي التجاوزات وعمليات التربح التي تهدم الاقتصاد الوطني من أساسه. لكني أناقش هنا «دولة القانون» مقارنة بالدولة البوليسية التي انتهي عهدها كما نأمل. الدولة القائمة علي احترام المواطن غنياً كان أو فقيراً، ناشطاً سياسياً أو ساعياً علي رزقه ومعيشته في سلام بعيداً عن السياسة. هذا المواطن ما الذي يطمئنه علي غده وهو لا يأمن شر أي بلاغ كيدي أو انتقام من خصم له قريب - ولو صغير الشأن - في أحد الأجهزة المهمة؟ عالِم في قفص الاتهام في نفس السياق أدهشني خبر البلاغ الذي قدمه وزير الري د. حسام مغازي في العالم الجليل د. نادر نور الدين يتهمه به بالسب والقذف في حقه لمجرد أن الأستاذ المتخصص انتقد أداء الوزير في قضية سد النهضة وقال إنه يضر بالأمن القومي المصري. مثار دهشتي هو ضيق صدر المسئولين التنفيذيين بانتقادات المتخصصين، واعتقادهم أنهم امتلكوا وحدهم الكفاءة التي تؤهلهم لقيادة الأمور المصيرية. قد يكون الوزير شعر ببعض الظلم من تحميله وحده مسئولية الفشل في إدارة الملف المفتوح من قبل أن يتولي منصبه، وسبقه في التعامل معه وزراء ريّ آخرون لم يأت أحد منهم بما لم يأت به الآخرون. كما أن مغازي ليس المسئول الوحيد عن هذا الملف المصيري الذي يتعلق فعلاً بالأمن القومي المصري، فهناك لجنة وطنية تتابعه وهي التي تشير علي الوزير باتخاذ ما يلزم من إجراءات في ضوء اقتراحاته بالطبع. فضلاً عن ان نتائج أعمال هذه اللجنة تعرض علي أعلي قيادات سياسية في البلاد. ومن المؤكد أن تلك القيادة لو استشعرت تقصيراً أو خطأ ما أو انفراداً من الوزير بتصرف ضار لإقالته سريعاً ودون إبطاء. لهذا أتصور أن البلاغ الذي قدمه الوزير ضد العالم هو نوع من الصراخ العبثي مقصود به تنبيه القيادات العليا إلي توجهات الرأي العام حتي لا يتحول هو إلي كبش فداء، وكان الأجدر به أن يطالب بالاستفادة بخبرات المتخصصين وبضم الدكتور نادر نور الدين وآخرين إلي اللجنة الوطنية المشرفة علي ملف سد النهضة أو الاستماع بجدية إلي آرائه بدلاً من تقديم البلاغات ضده. الملف لا يحتمل الإبطاء أو الخطأ أو الشخصنة.