ارتبط تاريخ مصر الحديث بقناة السويس في ملحمة رائعة علمتنا التجارب أن معارك الحرية والاستقلال ومعارك البناء والتنمية تحسم من هناك من يسيطر علي القناة يحكم قبضته علي مصير الوطن. درس آخر تعلمناه علي ضفاف القناة.. أكثر الناس تضحية هم أكثر الناس حبا للحياة وحرصا عليها، وأشد الناس التصاقا بالأمل وانتصارا للمستقبل. في عام 1956 كانت كل أسرة في بورسعيد قد قدمت شهيدا. وكانت المدينة تعاني الدمار الكامل والحصار مضروب عليها، ولا غذاء إلا بعض الأرز والبقوليات التي كانت في المخازن قبل العدوان.. ومع ذلك لم تتوقف المدينة عن المقاومة، ولم تتوقف أيضا عن الغناء. حلقات «السمسمية» تحدت حظر التجول، وسجلت ما جري في أناشيد رائعة تتغني باستعادة القناة، وبالانتصار الأكيد علي العدوان، وتربط بين كل ذلك وبين بناء السد وتحقيق الحلم في نهضة مصر وتقدمها. في هذه الظروف أبدع الفنان الشعبي «سبع ليالي وصبحية» و«مبروك يا جمال» و«دلسبس ياهووه» وغيرها من أناشيد المعركة. وعبر الإذاعة التي انقطع ارسالها لفترة قصيرة بعد ضربها بالطائرات البريطانية، ثم عادت تستأنف عملها.. كان فنانو مصر يحققون انطلاقة جديدة للأغنية الوطنية. عشرات الأغاني والأناشيد التي مازالت تعيش في وجداننا حتي اليوم.. بدءا من «الله أكبر» لمحمود الشريف، إلي «والله زمان يا سلاحي» لحن الطويل لأم كلثوم، إلي لحن الموجي «يا أغلي اسم في الوجود» إلي لحن السنباطي «أنا النيل مقبرة الغزاة».. والقائمة تطول لتكون موجة أغاني النصر بعد رحيل الاحتلال في ديسمبر. ثم يصطفون لنحتفل باسترداد القناة ونستعد للسد العالي. وفي الاحتفال بنجاحنا علي مؤامرة سحب المرشدين لتعطيل القناة ينطلق بعض أجمل الغناء الوطني.. تغني أم كلثوم «محلاك يا مصري وانت ع الدفة» التي كتبها صلاح جاهين ولحنها محمد الموجي.. بينما كان فارس الألحان الوطنية في هذا الوقت محمود الشريف يلجأ إلي ديوان صغير كان صلاح جاهين قد أصدرت في قلب المعركة بعنوان «موال عشان القنال» ويقتطع منه أنشودتين رائعتين.. «يا سايق الغليون» التي غناها عبدالمطلب، و«يا حمام البرسقف» التي أنشدتها أحلام. أما أنشودة عبدالحليم الرائعة «حكاية شعب» فقد قدمت بعد ذلك في الاحتفال ببدء العمل في السد العالي. ويتكرر الامر في كل معارك الوطن.. في 67 لم يتأخر أحد، ثم كانت الفترة الأصعب بعد الهزيمة لتتجلي عبقرية هذا الشعب في الصمود وإيمانه العميق بأن النصر في النهاية سيكون له. كان «الإخوان» يصلون لله شكرا علي هزيمة الوطن!! بينما كان شاعر الشعب فؤاد حداد ينشد: «الأرض بتتكلم عربي.. وما تطولش معاك الآه والأبنودي ينشد «عدي النهار».. وعندما يطول انتظار النصر والمعركة يأتي أولاد الأرض» من السويس لينشدوا رائعة الكابتن غزالي «فات الكتير يا بلدنا.. ما بقاش إلا القليل».. وقد كان حاربنا وانتصرنا وكان العبور العظيم في 73. واليوم نفتح صفحة جديدة في تاريخنا. وكالعادة تكون القناة عنوانا للحدث ومركزا له، نسعد بالانجاز الكبير ونستعد لانجازات اخري. نقاتل بيد، ونبني بأخري، ونغني لمصر وللحياة في كل وقت.