بلا شك أن الطبيعة في مصر صبغت شخصية المصري بصبغتي الثبات والصمود أمام التجارب والصعاب والآلام، فنهر النيل مثلا ليس نهرا عاديا بل هو يختلف عن غيره من أنهار وبمقدار هذا الاختلاف، يختلف الشعب المصري عن سائر شعوب الأرض!! فمصر ما هي إلا نيل تحيطه صحراء جرداء من الشرق والغرب، تلك الصحراء أضفت علي الشخصية المصرية روح الاستقلالية وعدم الاختلاط بالدول الأخري فترة من الزمن والشمس التي تشرق يوميا في كبد السماء وتلقي بأشعتها علي النيل والأرض والبشر، استحقت- في الزمن القديم- أن يعبدها المصري وأطلق عليها اسم »أتون«، ومن هنا صنع المصري كعك العيد المستدير كقرص الشمس وتعلوه نقوش هي أشعة الشمس، هذا الكعك يقوم بصناعته اليوم المصري سواء كان مسلما أو مسيحيا، أيضا لون البشرة المصرية- اللون القمحي- تشكل من النيل والشمس والصحراء، فمن ذا الذي يمكنه أن يغير من شكل المصري بل ويغير من طبيعته؟ لا باكستاني ولا أفغاني ولا إيراني. عبر آلاف السنين انتقلت إلينا من قدماء المصريين التقاليد الأسرية الراسخة، وإصالة التدين الصحيح، والأحزان الشديدة في الجنازات، واحترام الكبير مع تقبيل يده، والتقويم القبطي الذي ساير موكب الحضارة من أكثر من 6000 سنة حتي صار جدولا يتقنه الفلاح في اهتمامه بأرضه. ويذكر علماء المصريات أن الاعتماد علي الفيضان يعطي ثباتا واستقرارا للمعيشة والزراعة أكثر من الاعتماد علي المطر، هذا الاستقرار أعطي للمصري صمودا وثباتا، وإصراره علي إرادته وعدم تزعزعة بسهولة أمام الأحداث الجسام. نري الصمود واضحا في الشخصية المصرية عندما دخلت المسيحية مصر في عام 46م علي يد القديس مرقس »الذي استشهد في شوارع الاسكندرية يوم الأحد 8 مايو سنة 86م بينما الكنيسة القبطية تحتفل بعيد القيامة المجيد« فالرومان اضطهدوا المسيحية بأشد أنواع الاضطهاد، وفي تلك الأثناء تعذب الأقباط واحتملوا صنوف العذابات المتنوعة حفاظا علي إيمانهم، حتي صار الإيمان المسيحي مرادفا للعقيدة الشخصية التي لا يمكن التخلي عنها، ونجد في الرسائل العديد التي كتبها بطاركة الكنيسة القبطية لأبناء الكنيسة كانوا يشجعونهم علي الصمود أمام الآلام وان يستشهدوا بشرف وكرامة، مما حدا بالكاتبة الانجليزية مسز بوتشر أن تكتب وتقول: لو تزحزح الهرم الأكبر عن مكانه لن يتزحزح القبطي عن إيمانه وما أن انتهي عصر الاستشهاد، حتي بحث أقباط مصر عن استشهاد آخر بدون سفك دم، ومن هنا نشأت الرهبنة القبطية كموت عن العالم، وعبادة الله الخالق دون عائق من احتياجات الجسد ومطالبه، فأصبح كل دير دولة مستقلة، له قدرته علي الانغلاق علي العالم شهورا طويلة، مع الاكتفاء بإجران من الترمس والخبز الجاف لمواجهة أزمة الجوع. ويقول د. رشاد رشدي »في مقاله: الإنسان المصري وإلي أين يسير؟- مجلة الجديد عام 2791« إن الشعب المصري يصمت وصمته لا يعني دائما الموافقة، ويخضع وخضوعه لا يعني دائما القبول ويقول عميد الأدب العربي د. طه حسين »في مقاله: مصر لا تفني أبدا- مجلة الجديد عام 2791« لقد حكم مصر الأتراك والرمان.. وسادها الاحتلالان الفرنسي والبريطاني، كل هذه تركت علي مصر بصماتها، لكنها لم تقدر أن تطمس الشخصية المصرية ولا أن تغيرها بتطرف. من رمال الصحراء المصرية تعلم المصري الصبر والصمود والثبات والعمق في الفكر، حتي أنه في عصر الاستشهاد المسيحي انتشر القول: »صارت دماء الشهداء بدار الكنيسة«. والصمود المصري جعل من الشعب الواحد متماسكا، حتي أنه في فترة الآلام التي مرت بها كنيسة الاسكندرية طالب الأخوة المسلمون الشركاء في الوطن الواحد أن يكونوا دروعا بشرية لحماية كنيسة الإسكندرية، إنها الروح الواحدة التي يحملها كل مصري في داخله. يا أخوة إن مصر الخالدة هي نحن، ونحن نعيش كل يوم في حياتنا قصة مصر القديمة الجديدة، متفاعلة معنا في سلوكنا وتفكيرنا، وتصرفاتنا، في صمودنا وثباتنا وتماسكنا، فلا تطعوا أذنا للأصوات المخربة التي تنهق من حولنا، بل انصتوا لصوت الضمير الحي الساكن فيكم الذي ينادي: »يا أولادي عيشوا كما يحق بالجنسية المصرية التي دعيتم إليها، فأنتم أنقي شعوب الأرض، وأنتم أكليلي وفخري، أنتم ورثة حكماء الأرض ونورها«. كاتب المقال : كلية الهندسة - جامعة الإسكندرية