قطوف يانعة من سيرته العطرة التي حوت ووعت.. اسرد هاتيك النتف المتفرقة منها.. فهو صاحب الكتاب المتفرد »الاعتذار بالجهل بالقانون« الذي اضحي مرجعا للعلماء الثقات فيما لو أرادوا ان ينهلوا من منهله.. المبدأ الضارب في القدم منذ عهد الرومان.. فالسؤال الذي يثور.. هل يعتد الجهل بالقانون إعمالا لاعتبارات العدالة أم يتم التجاوز عنه؟. والجهل ببساطة هو نقيض العلم والجهل بالقانون يعني عدم العلم بحكم القانون علي وجهة الصحيح فبينما يري البعض ان ثمة تفرقة بين الجهل والغلط ليست سوي تفرقة في الدرجة فقط دون الطبيعة بحسبان أن الجهل هو غلط كلي والغلط هو جهل جزئي وكلاهما كما عبر الاستاذ الدكتور عوض غازي.. يعني انتفاء المعرفة الصحيحة وان كان الجهل يمثل غيابا تاما لهذه المعرفة والغلط يمثل عدم كمالها. فالقاضي الذي يطبق القانون قد يكون جاهلا لبعض قواعده او تعديلاته المتلاحقة بدون ضابط. آية ذلك الكثير من الاحكام القضائية التي ثبت عوارها امام المحكمة الاعلي.. بل ان المشرع نفسه قد يقع في هذا العوار بعدم قدرته علي ما يطرأ من التشريعات التي اصدرها سواء بالتعديل ام بالالغاء. ويري القاضي الفقيه وجدي عبدالصمد انه في فقه الشريعة الاسلامية يشترط لصحة التكليف ان يكون المكلف به معلوما للمكلف علما تماما- اي يقينيا- ليتسني له القيام به.. وهذا ما ارتآه شيخ شيوخ مجلس الدولة العلامة الدكتور عبدالرازق السنهوري حيث ذهب الي أن الجهل بالقانون يصلح عذرا اذا لم يصحب الجهل تقصير. هذا السفر الرائع للمغفور له محمد وجدي عبدالصمد يفصح عن عقلية القاضي العالم الذي زاوج بين الفقه والقانون. فالقاضي الذي يعتمد علي ضميره وعقله لا يشعر بأية غضاضه في تطبيق ذلك المبدأ القويم المستقيم.. فالبحث عن الحقيقة أمتع من الاهتداء اليها.. وان كان من المحرم علي القاضي ان يتناول النص القانوني بالطعن أو التجريح كما ذهب الفقيه »رانسون«. وهو صاحب الجرأة المحمودة وهو يجأر امام الرئيس الشهيد أنور السادات قائلا له في حفل اقيم بنادي قضاة مصر.. وبصوت جهوري يغلفه دماثة الخلق: فإذا غضبت فاغضب من نفسك أنت، وكان القاضي الفقيه يطالب الرئيس السادات ان يمحو عن جبين القضاء القوانين التي وصفت آنذاك.. بالقوانين سيئة السمعة. وهو صاحب الاريحية التي تذكر فتشكر وصاحب الوفاء الذي يندر وجوده بين البشر.. فالوفاء خلة الاقوياء. منذ نيف وثلاثين عاما التقيته في نادي القضاة عندما رآني رحمه الله هش وبش بوجهة الكريم مبتدرا اياي قائلا.. أهلا بابن استاذنا صاحب مقال (اليمين)، ثم اردف قائلا.. لقد عبر والدك عما جاش في صدور القضاة برمتهم بمقاله القيم ذاك.. وكانت الدولة التي خاصمت القضاة وعسفت بهم قد ابدلت القانون الذي يقضي بأن يحلف رئيس محكمة النقض اليمين امام رئيس الجمهورية حال- تسلمه لمنصبه الرفيع- الي ان يحلف اليمين امام وزير العدل.. فتصدي المرحوم الوالد لهذا العبث بمقال نشرته جريدة الاخبار الغراء في يوميات المرحوم الاستاذ احمد الصاوي محمد تحت عنوان »شئون قضائية« ورد فيه ان هذا التعديل الذي حدث فيه خروج علي القانون ومألوف العرف وفن التشريع.. والا فكيف يحلف وزير أمام وزير، ويزيد من وقع ذلك علي النفس ان كان هذا الوزير رئيسا لاحدي سلطات الدولة الثلاث التي لها خطرها وجلالها وقدسيتها؟. إنها خلة الوفاء التي لا تتوافر الا في الصفوة المختارة من البشر رحم الله استاذنا جميعا وشيخ شيوخ القضاة المستشار محمد وجدي عبدالصمد.. وعوض القضاء خيرا عن فقدانه.
كاتب المقال: رئيس محكمة الاستئناف والمستشار السابق للأمانة العامة لمجلس الوزراء