نجد في العسكرية المصرية ما نفتقده في المؤسسات المدنية وهو توقير القيادات السابقة واحترام عطائها وتضحياتها في سبيل الوطن لم يقدر علي إخفاء مشاعره، فضحتها نظرة حزينة تطل من عينيه، وهو يخاطب الجماهير مساء الأربعاء الماضي عبر كاميرا تليفزيونية، يقول إنه قرر أن ينهي خدمته في القوات المسلحة وأن يخلع زيه العسكري الذي ارتداه قرابة 45 عاماً كاملة منذ التحق بالثانوية الجوية قبل أن يتم الخامسة عشرة من عمره في تلك الليلة صافح المشير عبدالفتاح السيسي رفاق العمر والسلاح من أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذين عانقوه في ختام اجتماع المجلس برئاسة الرئيس عدلي منصور، ثم غادر مبني وزارة الدفاع، بعد أن سلم مسئولية القوات المسلحة إلي قائدها العام الجديد الفريق أول صدقي صبحي، الذي للمفارقة سبق له قبل 15 عاماً مضت أن سلم مسئولية قيادة لواء مشاه ميكانيكي كان يقوده إلي رئيس أركان التشكيل العقيد أركان حرب عبدالفتاح السيسي. *** بالأمس.. احتفت القوات المسلحة بقائدها العام السابق المشير السيسي الذي حقق لها في غضون 19 شهراً منذ تولي منصبه، إنجازات في مجالات التدريب والتسليح، ورفع قدرة الجيش المصري علي الدفاع والردع (نعم الردع)، ما كان من المتصور أن تتحقق قبل مرور عشر سنوات علي الأقل، بشهادة اللواء أركان حرب محمدالعصار مساعد وزير الدفاع وأقدم ضباط الجيش الحاليين تخرجاً وخبير التسليح المعروف. لأول مرة، كان السيسي يرتدي الزي المدني في لقاء يجمعه بزملائه ومرءوسيه السابقين. ودعهم متمنياً للقوات المسلحة ولقائدها العام الجديد الفريق أول صدقي ولرئيس أركانها الفريق محمود حجازي، كل التوفيق في حمل الأمانة المقدسة قال لي الفريق التراس في إيثار واستقامة : هو بكل أمانة الأقدر والأصلحلهذا المنصب
أغلب الظن أنه وقد تركهم قائداً عاماً سابقاً، ربما يعود إليهم بعد شهرين إذا جرت المقادير بما هو متوقع وشاءت إرادة الشعب قائدا أعلي ورئيساً منتخباً. احتفال الجيش المصري بقائده العام السابق، جزء من تقاليد مؤسستنا العسكرية العريقة، وهو تقليد «التسليم والتسلم» في مختلف المناصب القيادية، وتكريم كبار القادة السابقين عند تركهم الخدمة ومنحهم الأوسمة العسكرية. *** جانب آخر من تقاليد المؤسسة العسكرية نفتقده في المؤسسات المدنية، هو توقير القيادات السابقة، واحترام عطائها وتضحياتها في سبيل الوطن. شاهدت قائداً عظيماً هو المشير الراحل محمد عبدالحليم أبوغزالة، يهب واقفا ويرتدي كابه، ليؤدي التحية العسكرية لقائده السابق أثناء حرب أكتوبر اللواء عبدالمنعم واصل شاهدت قائداً عظيماً آخر هو المشير حسين طنطاوي ينحني علي يد البطل اللواء عادل يسري رحمه الله الذي فقد ساقه وهو يقاتل قائداً لتشكيل ميكانيكي في عمق سيناء، وكان اللواء عادل يسري يجلس علي كرسي متحرك أمام المنصة في احتفال بذكري أكتوبر منذ أعوام قليلة شاهدت أيضا قائداً فذاً هو الفريق صفي الدين أبوشناف رئيس الأركان الأسبق، يقبل رأس ضابط مقاتل في وحدات الصاعقة، أصيب بالشلل في معارك أكتوبر، ولم يجد أبوشناف ما يعبر به عن امتنانه لتضحية البطل الغالية، سوي أن يخلع ساعة يده ويهديها له وهو يغالب دموعه شاهدت المشير عبدالفتاح السيسي يتحدث بكل احترام وتقدير عن عطاء المشير طنطاوي للوطن، مقاتلاً وقائداً في أحلك الظروف، ورأيته يقف من مجلسه، ويتوجه إلي أقصي يسار القاعة، يؤدي التحية للواء كمال عامر الذي كان قائداً للفرقة 33 الميكانيكية، حينما كان السيسي يخدم بها رئيساً لعمليات أحد ألويتها. أكثر ما يأسرني في شخصية رائعة كالفريق عبدالعزيز سيف الدين القائد السابق للدفاع الجوي ورئيس الهيئة العربية للتصنيع هو حديثه عن قادته السابقين أمثال المشير الراحل محمد علي فهمي والفريق السيد حمدي والفريق الراحل عادل خليل، كذلك عزوفه عن تصدر المشهد، حتي وإن كان يستحق، وإيثاره للآخرين علي نفسه رغم أنه يستأهل. *** منذ أيام.. عشت مشهداً يعبر بدقة عن تقاليد المؤسسة، كنت في لقاء خاص مع الفريق عبدالمنعم التراس قائد قوات الدفاع الجوي، كنت أعلم وقتها أن الرأي لم يستقر بعد علي اسم رئيس أركان حرب القوات المسلحة الجديد، بعد أن حسم الأمر ورُئي أن يخلف الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان، المشير السيسي في منصب القائد العام. وبرغم ذلك كانت صحف وفضائيات تقطع بغير معلومات بأن الفريق التراس قد اختير لمنصب رئيس الأركان، وأخري تتداول في أسماء قادة ترشحهم لهذا المنصب العسكري الصرف، دون ترو أو إدراك للفرق بين الحديث عن تشكيل هيئات قيادة الجيوش، وعن تشكيل فرق الكرة. سألت الفريق التراس: هل لذلك ظل من حقيقة؟.. رد قائلاً: «لم يحادثني أحد، ولا أظن». ثم أضاف: «إن المناصب العسكرية هم ومسئولية وعبء، ومثل هذا الكلام لا يشغلني، ولا أنشغل به ولا غيري من القادة، فأمامنا مهام ثقيلة أولي باهتمامنا». وفي مساء أمس الأول.. كنت أهاتف الفريق التراس، ووجدته يقول لي: «لم أشأ أن أكذب ما قيل ونشر في حينه، فلم نعتد علي ذلك». ثم أضاف: «كنت أتوقع تعيين الفريق محمود حجازي رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة، وهو بكل أمانة الأقدر والأصلح لهذا المنصب». *** كلام الفريق عبدالمنعم التراس الذي يعبر عن إيثار وموضوعية واستقامة في التفكير والرأي، جاء مواكباً لحملة إخوانية، انقاد لها مع الأسف معلقون يتحدثون فيما لايفقهون، ويتناسون 44 عاماً أمضاها الفريق محمود حجازي في القوات المسلحة طالباً وضابطاً ومقاتلاً، وقائداً لفرقة مدرعة، ثم رئيساً لأركان المنطقة المركزية، فقائداً للمنطقة الغربية، فرئيساً لهيئة التنظيم والإدارة، ثم مديراً لإدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، ويختزلون هذا المشوار العسكري المشرف، في علاقة أسرية تربطه منذ سنوات بالمشير السيسي وهما برتبة العميد، هي أنهما جدان لنفس الأحفاد. ما هكذا تدار الأمور داخل القوات المسلحة، وما هكذا يجري تقييم الرجال، وما بهذه الخفة يتم اختيار القادة وربما لا يعرف الكثيرون أن الفريق محمود حجازي كان أقدم في سلسلة القيادة من المشير السيسي، قبل أن يرقي إلي رتبة الفريق أول ويعين وزيراً للدفاع الفريق حجازي، وجه معروف لمن كان يتابع لقاءات كبار القادة أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة مع الصحفيين وعبر الفضائيات، في أعقاب ثورة 25 يناير، ومعروف أكثر لشباب ثورة يناير علي اختلاف اتجاهاتهم الفكرية، وللقوي السياسية علي تنوع ألوان طيفها وشباب ثورة 30 يونيو. وأذكر أنني شاهدت اللواء محمود حجازي يتحدث للتليفزيون قبل ثلاثة أيام من تسليم السلطة إلي الدكتور محمد مرسي، مؤكداً أن القوات المسلحة ستدعم الرئيس الذي اختاره الشعب، ثم وجدته بعدها بعشرة أيام، أثناء احتفال المعهد الفني للقوات المسلحة بتخريج دفعة جديدة، يكاد يتخلي عن هدوئه المعهود، ويحاول جاهداً السيطرة علي بركان غضب يعتمل في صدره وهو يجيب عليّ. وأنا أشير إلي الدكتور محمد مرسي عند دخوله إلي منصة الاحتفال وأسأله عن شرعية هذا الرئيس الذي وقع قبلها بساعات علي أول قرار ينتهك الإعلان الدستوري الذي أقسم عليه ويلغي حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس الشعب. *** وشاهدت اللواء حجازي يتجنب الاقتراب من الرئيس منتهك الدستور، في ذات الوقت رأيت الفريق عبدالعزيز سيف الدين يخلع كابه حتي لا يؤدي التحية العسكرية لرئيس حنث بالقسم. *** تقاليد العسكرية المصرية، التي دفعت المجلس الأعلي للقوات المسلحة، يوم 27 يناير الماضي لأن يطلب من رئيسه المشير عبدالفتاح السيسي أن يتصرف إزاء رغبة الجماهير العريضة في ترشحه لمنصب الرئيس وفق ما يمليه عليه ضميره الوطني، هي نفسها التقاليد المرعية التي تلزم القوات المسلحة بعد أن اختار قائدها إنهاء خدمته والترشح، بأن تقف علي الحياد في منطقة وسطي بين جميع المرشحين لرئاسة الجمهورية، وهي ذات التقاليد التي لمسناها في انتخابات الرئاسة السابقة وسنجدها تظلل الانتخابات المقبلة، في تقديس إرادة الشعب واختياره الحر لرئيس الجمهورية أيا كان شخصه، وتقديم كل الدعم له بعد فوزه بالرئاسة، والالتزام بواجب طاعته، كقائد اعلي لها، مادام يطيع الشعب ويصون إرادة الجماهير. *** سألت الفريق أول صدقي صبحي.. فأجابني: إنني متفائل جدا بالمستقبل، واطمئنوا.. لا عودة إلي الوراء في سلاسة وانضباط وأيضا رضاء.. جرت حركة تنقلات القوات المسلحة منذ عشرة أيام، وجري بعدها تسليم وتسلم القيادة الجديدة للقوات المسلحة. ولقد سألت الفريق أول صدقي صبحي القائد العام الجديد، وأنا أهاتفه أول أمس مهنئا بشرف المسئولية رغم مشقتها: كيف تري الفترة المقبلة في ظل الأنواء والصعاب والمخاطر؟ أجابني قائلا: قواتنا المسلحة ماضية في خطط التطوير والتحديث، ومستمرة بكل حماس وإخلاص في أداء واجبها الوطني لحماية الوطن والمواطن. ثم أضاف: «إنني متفائل جداً بالمستقبل، وأدعو شعبنا العظيم للاطمئنان علي غده بإذن الله، فنحن علي الطريق الصحيح، ولا عودة أبداً إلي الوراء».