تنسيق الجامعات 2025، آخر موعد للتسجيل باختبارات القدرات    قصة الانتخابات البرلمانية في مصر.. من 1976 الانتخابات التي غيرت وجه الحياة السياسية إلى 2025 "انتخابات الصفقات الغامضة".. شهادة صحفية تكشف المستور فى عصر السادات وتنذر بمخاطر كبرى    وكيل أوقاف الإسماعيلية يشدد على تثقيف الأئمة ويتوعد المقصرين ( صور)    تفاصيل اجتماع وزير التموين بقيادات "العامة للجملة" لمتابعة مخزون السلع الأساسية    رسميا، تراجع مفاجئ في سعر الدولار أمام الجنيه    منظمات إسرائيلية تتهم حكومة نتنياهو بارتكاب إبادة جماعية في غزة    الكرملين: عملية تطبيع العلاقات بين روسيا وأمريكا تسير في مكانها    حماس تدعو إلى تصعيد المظاهرات أمام سفارات إسرائيل وأمريكا.. واعتبار 3 أغسطس يوما لنصرة غزة    برنامج الأغذية العالمي: كميات المساعدات الإنسانية اللازمة لا تدخل إلى غزة    دياز يصل ألمانيا تمهيدًا للانضمام إلى بايرن ميونخ    تعرف على تفاصيل مفاوضات أليو ديانج وبيراميدز    إدارة ريال مدريد تفتح ملف التجديدات.. وتضع كارفاخال وروديجر ضمن أولوياتها    إحالة سارة خليفة و27 متهما آخرين للجنايات في قضية المخدرات التخليقية    الأرصاد: انخفاض تدريجي في درجات الحرارة يبدأ غدًا ويصل إلى 4 درجات    الأزهر يعلن جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية الأزهرية 2025.. البداية 18 أغسطس    انتشال جثة مسنة وإنقاذ نجلها في انهيار عقار سكني بطنطا    أبرزهم إليسا، نجوم الفن يتوافدون على مراسم ثاني أيام عزاء زياد الرحباني    بدء فعاليات اجتماع المجلس الأعلى للثقافة لتصويت على جوائز الدولة    فيديو ل "مركز معلومات مجلس الوزراء" يكشف جهود الدولة لتطوير المنظومة الصحية في مصر    خلال زيارة مفاجئة.. محافظ الدقهلية يشدد على انتظام العمل وحسن استقبال المرضى بعيادة التأمين الصحي بجديلة..صور    أفضل وأسوأ المشروبات خلال موجات الحر الشديدة    مطروح: مصرع شخص وإصابة 59 في انقلاب أتوبيس رحلات على الطريق الدولي الساحلي    "الفجر" ترصد لحظة وصول محافظ الدقهلية لموقع كسر خط المياه لمتابعة تنفيذ أعمال الصيانه    «التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    رئيس «جهار» يستقبل وفدا من منظمة دعم أداء النظم الصحية والابتكار العالمية    وزير العمل: التعليم الفني يشهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة بتعاون وجهود ملحوظة من القطاع الخاص    انتظار صدور حكم في قضية سرقة عملات ذهبية أثرية من متحف ألماني    رصيف محطة هاتشيسون رقم 1 بميناء السخنة يستقبل السفينة ZHEN HUA 36 المخصصة لنقل الأوناش الثقيلة    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    دخول 9 شاحنات مساعدات إنسانية إلى معبر كرم أبو سالم تمهيدًا لدخولها لقطاع غزة    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    وظائف قيادية وإشرافية شاغرة بمديرية التعليم في شمال سيناء (التخصصات والشروط)    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    يوسف معاطي: سعاد حسني لم تمت موتة عادية.. وهنيدي أخف دم كوميديان    قناة الأهلي: عبد القادر يريد الرحيل عن الأهلي والانتقال للزمالك    موعد بداية العام الدراسي الجديد 2026    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    غادة عادل vs صبا مبارك.. انطلاق تصوير «وتر حساس» الجزء الثاني    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    سعر السمك البلطي والمرجان والجمبري بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    «البيئة» تصدر 1742 ترخيصًا لإدارة المخلفات    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
دموع.. باب الخلق!
نشر في الأخبار يوم 03 - 02 - 2014

محمد فهمى أنا.. حي.. وأنت حي.. وسيدنا الحسين حي.. والسيدة زينب حي.. وباب الخلق حي.. ونحن نموت.. فهل تموت الأحياء أيضا؟!
عندما تردد في أجهزة التلفزة اسم »باب الخلق« داهمتني ذكريات.. سنوات أمضيتها.. مع صديق قديم هو الشاعر محمود أبوالوفا.. صاحب قصيدة:
عندما يأتي المساء..
ونجوم الليل تنثر..
كان الشاعر الراحل.. وهو من أعظم شعراء عصره.. بعد أمير الشعراء أحمد شوقي.. يقيم في أوائل الستينيات.. في زقاق ضيق من الأزقة المتفرعة من حواري »شارع باب الخلق«.. وعلي بعد نحو كيلومتر من دار الكتب..
وكان المنزل عبارة عن باب من الخشب.. تواجهه سلالم ضيقة تصدر أصواتا عند الصعود وعند الهبوط.. تصل إلي غرفة واحدة.. لها نافذة تطل علي أحد المساجد الأثرية.. وكنت من باب المزاح أسأل الشاعر العظيم.. عما إذا كان يضطر لاخراج ذراعه من النافذة عندما يهم بارتداء المعطف؟! وكان يرد ضاحكا.. انه يمد يده من النافذة عندما يريد ان يشرب من قلة الجيران!
كان محمود أبوالوفا يصعد السلالم بكفاءة عالية.. وهو يميل نحو اليسار تارة.. ونحو اليمين تارة أخري.. لانه كان قد فقد ساقه في حادث سيارة.. وأصبح بساق واحدة يتوكأ عليها.. ويسير فوق الساق الأخري مستندا للعكاز الخشبي العتيق.
كان الرجل يرتدي الجلباب.. ويتنقل بين أطراف الحارة التي لا يعرف أغلب سكانها القراءة والكتاب.. ولا يعرفون قيمة الشاعر.. الذي كانت تربطه بأمير الشعراء أحمد شوقي علاقة متينة وقوية.. ولا يعرفون عنه سوي أنه احد أبناء الحارة..
وعندما سألت أحد أطفال الحارة في بداية علاقتي به.. عن اسمه وهو محمود أبوالوفا.. عاد الطفل يسألني مستفسرا:
الأعرج؟!
وعندما أجبته بنعم أشار إلي المنزل الذي لا تزيد مساحته عن مساحة غرفة واحدة فقط.
لم يكن أبناء الحارة يعرفون عنه سوي انه »الأعرج«.. ولم أقابل في تلك الأيام.. سوي خمسة أشخاص يعرفون قيمة الرجل.. وكنا نشكل جمعية ثقافية أطلقنا عليها اسم:
إنسان الفصل الخامس!
وتدور فكرة الجمعية باختصار شديد.. حول ان الدنيا مكونة من أربعة فصول.. هي الشتاء والخريف والصيف والربيع.. وان لكل فصل من فصول السنة سمات مميزة.. تنعكس علي البشر.. وان أعضاء الجمعية »السبعة« ينتمون لفصل خامس لهم صفات ومواصفات تتسم بالرقي ولديهم من الشهامة وعزة النفس والكرامة ما يدفعون به عند الاعراض عن الحسب والنسب.. واننا باختصار شديد من أهل النجدة والفتوة.. وأصحاب الهمة والمروءة.. علي حد تعبير محمود أبوالوفا.
وكانت هذه الجمعية تضم خمسة من أرباب الوظائف الحكومية الراقية.. بل ان احدهم كان يعمل طبيبا بوزارة الصحة.. وتربطه بالشعر.. وبالأدب بصفة عامة.. علاقة متينة..
وكان الفضل في المستوي الثقافي الرفيع لأعضاء جمعية »انسان الفصل الخامس« يرجع لسبب واضح.. وهو رقي مستوي التعليم في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.. فكانوا جميعا.. رغم اختلاف تخصصاتهم الوظيفية إلا أنهم كانوا علي دراية كاملة باعمال الشعراء والأدباء وقيمة وقامة كل واحد.. ويحفظون علي سبيل المثال ابياتا من الجزء الثالث من الشوقيات.. وهو الجزء الذي لم ينشر حتي الآن ناهيكم عن الجزء الرابع الذي يضم المتفرقات من شعر شوقي.. ولذلك الموضوع حكاية تستحق الرواية.. وتعبر عن شهامة محمود أبوالوفا الذي جمع هذه القصائد.. ولم يتمكن من طبعها لضيق ذات اليد من ناحية.. ولتغير الأزمان والعياذ بالله من ناحية أخري.
الحكاية باختصار شديد ان أحمد شوقي.. لم يهتم طوال حياته بجمع شعره.. ولا حتي بتكليف سكرتيره بجمعه وحفظه.. وكان يسقط ابياتا من قصائده التي نشرت.. معتقدا انها لا ترقي لمستوي عبقريته.. وكان يقول »ان من حق الشاعر ان ينخل شعره كما يشاء«!
وأذكر الآن ما رواه الدكتور محمد صبري السربوني.. وكان من أكبر عشاق شوقي انه التقي بأمير الشعراء أثناء رحلته في أوروبا في صيف سنة 3291.. وانه قال له انه يريد ان يغتنم هذه الفرصة »لكتابة تاريخ حياتك وشعرك«.. فقال له شوقي:
- عايز كام؟!
فاجاب:
- مش عايز حاجة!
وانتهي كل شيء!
العلاقة بين شوقي ومحمود أبوالوفا.. كانت مختلفة.. لانها كانت تقوم علي أسس مختلفة.. وقال لي محمود أبوالوفا.. انه كان صاحب فكرة منح أحمد شوقي لقب أمير الشعراء.. وكان دائم الحديث عن الحفل الذي أقامه أحمد شوقي في مسرح الأزبكية لمعاونته علي مجابهة الحياة.
ويقول محمود أبوالوفا انه ليس من المعروف من الذي أطلق علي خليل مطران لقب »شاعر القطرين«.. أي مصر والشام..
وكان رحمه الله يضحك من كل قلبه وهو يقول ان المطربة فتحية أحمد سرقت اللقب وكانت تسمي نفسها »مطربة القطرين«!
كان محمود أبوالوفا يحضر جلساتنا لابسا جلبابه.. مستندا لعكازه.. متمايلا أثناء السير لليمين تارة ولليسار تارة أخري.. اما اللقاءات التي كانت تشهدها غرفته المطلة علي »قلل الجيران«.. فكانت نموذجا لعصر.. مضي.. فيه الابداع.. والشهامة.. واخلاق أولاد البلد.. ووطنية الساسة الذين لم نكن نشك في وطنيتهم.. ولم يكن يخطر ببالنا.. ان يكونوا جواسيس لجهات أجنبية تسعي لتمزيق الوطن وتدمير جيشه.. وقوات أمنه.
الله يرحمك.. يا محمود يا أبوالوفا ويرحم أيامك.. واعتذر لك لانني تأخرت عن الكتابة عنك.. لمدة 05 سنة.. وجاء الكلام بمناسبة الانفجار.. الذي يبدو لي أنك لم تشعر به.
وفاة.. حي!
أنت حي.. وأنا حي.. وباب الخلق حي.. والحسين حي.. والسيدة زينب حي.. كلنا أحياء.. ونصاب بالشيخوخة.. فنشعر أثناء السير بالشخللة.. كالبالوظة الطازجة.. ونشعر عند النظر بالزغللة كالوشم فوق صدر متحرك.. ونشعر أثناء السمع بالطرقعة.. علي ايقاعات النهاوند.
نحن لنا أعمار.. وكل من يخاطبنا يقول لنا.. »يا حاج«.. من باب الاحترام والتوقير.. والاحياء السكنية.. كذلك.. لها أعمار لا تتجاوزها وتصاب بالشيخوخة.. وتعاني من الشخللة والزغللة.. والطرقعة.. ولكن لا يقال لها يا حاج.. بل قد يحدث بعض التحريف في الاسم.. من باب الدلع.. كان يقال ل»باب الخرق« أيام العصر العثماني.. »باب الخلق« الآن.. وان تختفي أحياء بكاملها مثل العتبة الزرقاء ومقابر الأزبكية.. وتحت الربع وبركة الفرانين وبركة الفوالة ودرب السقايين وسوق الغنم.. والعطوف والمدابغ القديمة...إلخ.. وعشرات من النماذج.. التي كانت في أوج شبابها أيام المماليك ثم انتهي بها الحال إلي الزوال.. لسبب بسيط هو ان للاحياء السكنية في بلدنا.. أعمار.. لا تتجاوزها.. ومعيار استمرارها ووجودها مرتبط بمدي قدرتها علي تطوير نفسها ومرافقها ومعالمها.. وملامحها.. والمحافظة علي إطالة عمرها الافتراضي بالعمران الابداعي والتطلع لحاجات المستقبل.
ومصطلح »العمران« يعني التوافق والانسجام والاتساق مع مقتضيات العصر.. وهو ما أهملناه منذ أكثر من 06 سنة.. وأصبحت بلادنا الجميلة مشحونة بالعشوائيات البدائية التي احاطت بالعاصمة.. احاطة الطرحة بوسط راقصة في مناسبة عائلية.. وأصبحنا نسمع عن 02 مليون مواطن يعيشون في عشوائية اسطبل عنتر وشقيقاتها.. بلا دورات مياه.. وبلا صرف صحي.. وبلا حدود!
نحن لا نعرف العمران.. ولا نحافظ علي ملامح المدن.. واختلط الحابل بالنابل.. ومنذ أيام زرت منطقة باب الخلق.. محاولا الوصول لمنزل الشاعر الكبير محمود أبوالوفا.. وهو بالمناسبة ممن يضرب بهم المثل في سوء الحظ.. عليه رحمة الله.. وإذا بي يا سيدي.. في عالم آخر.. وأناس يتحدثون بأصوات عالية.. ومكبرات صوت تصدر من كل الزوايا.. كهزيم الرعد تدعو الناس للصلاة.. بينما ممرات الأزقة حافلة بكل ألوان البشر.. الذين يتدافعون.. وسط ازدحام.. لا يتصوره العقل..
لقد اختفت ملامح الحارة التي كان يسكنها الشاعر محمود أبوالوفا.. واختفت معها صورة لاتزال ماثلة في ذاكرتي عندما كان يقود دراجة بساق واحدة.. ويدخل بها الحارة.
لم تكن الحارة بكل هذا الازدحام الذي نراه الآن.. والدليل علي هذا ان اتساعها النسبي.. كان يسمح للشاعر العبقري ان يتنقل بين ارجاء الحارة.. وشارع باب الخلق علي متن دراجة.. يقال لها »البسكلتة«.
ولم أعثر علي الحارة.. ولم أعثر علي المنزل.. ولم أعثر علي لافتة تشير إلي أن الحارة تحمل اسم محمود أبوالوفا.. واختلطت حدود الأحياء وتشابكت.. وأصبحت احياء ضخمة.. ويزيد من ضخامتها.. تضاعف عدد سكانها. لسبب بسيط هو ان السرعة التي تتغير بها سرعة المكان تفوق السرعة التي تتغير بها حدود الاحياء.
الحارة التي كان يعيش فيها محمود أبوالوفا.. ماتت.. والحي الشعبي.. مات..
كان محمود أبوالوفا.. يعرف انه سيموت.. وان لكل أجل كتاب.. ولكن السؤال.. هل تموت الأماكن مع أصحابها..
هل مات حي باب الخلق.. ولم يبق لنا سوي اسمه؟
هل تموت الاحياء مع أصحابها؟
الله أعلم!
رحلة الخلود!
يروي العالم المصري الجليل فوزي حسين.. في الجزء الأول من موسوعته »رحلة الخلود« الذي صدر منذ أيام.. ان الإنشاءات المعمارية للمصريين القدماء.. علي طول البلاد وعرضها عبر مراحل تاريخنا الطويل كانت تعزيزا لعقائد دينية رسخت في عقولهم وقلوبهم.. وشكلت في عقلهم الجمعي.. بان هناك حياة ثانية.. بعد الموت.. وهناك بعث جديد.. وكانت الدليل علي قوة الحاكم وقدرته علي السيطرة علي وطنه وشعبه.. ولم يترك رمسيس الثاني الذي حكم مصر 66 عاما.. اقليما من أقاليم مصر ابتداء من »تانيس« شمال شرق الدلتا.. وحتي أبوسمبل في أقصي الجنوب.. الا وأقام فيه معبدا أو صرحا.. بما يشهد حتي اليوم علي قوته وعظمته.. وايمانه المطلق برحلة الخلود.
ويتفق الاساتذة العظام في علم المصريات.. علي ان مصر القديمة.. هي أصل مدنيات العالم.. ومنبت الضمير والبيئة الأولي التي نمت فيها الأخلاق.. وأن الوصول إلي مثل هذه الحقيقة الايمانية.. في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية يشير إلي ان هناك خالقا لهذا الكون.. وان هذا الخالق وضع نظاما وسننا تنظم حياة الناس وتتناغم بها العلاقات الاضافية بين المخلوقات.. وتتحقق بها العدالة بين البشر.. وان حياة الإنسان علي الأرض ليست عبثا أو استهلاكا للوقت والطاقة.. وإنما هي رحلة عابرة.. وان الحياة »الديمومة«.. تقع في عالم آخر.. وهو عالم ما بعد الموت.. وأن كل إنسان سيحاسب علي مجمل أعماله التي يقترفها.. ان خيرا فخير ونعيم.. وان كانت شرا فعذاب وجحيم.
ويقول العالم الجليل في الجزء الأول من موسوعة »رحلة الخلود« ان هذه الافكار عن الحساب بعد الموت شحذت عبقرية المصري القديم بأمرين هامين:
الأمر الأول: ان يضبط روحه (B.A) بمجموعة من القيم والسلوكيات التي تنظم علاقاته مع المعبودات.. ومع رفاقه علي الأرض في هذه »الرحلة العابرة« وان يهييء نفسه للرحلة الابدية.. رحلة الخلود.
الأمر الثاني: ان يضبط أمور جسده بالمحافظة عليه.. ليس فقط أثناء حياته.. وإنما بعد وفاته أيضا.. وذلك بتوفير الضمانات اللازمة لعدم تحلله أو تعفنه.. ومن هنا نشأت فكرة التحنيط.. كي يظل الجسد سليما.. دون عطب حتي تتعرف عليه الروح ال(B.A) عندما تزوره في قبره بعد الموت.. ومن ثم تعود اليه الحياة من جديد في حالة اشراقة جديدة كالشمس.. وان يبعث من جديد.
ومن هذه العقيدة.. كما يقول العالم فوزي حسين.. أجهد كهنة المصريين وعلماؤهم وأدباؤهم.. أنفسهم كي يصيغوا منظومة متكاملة لتحقيق الأمرين معا.. وهما التأمين الروحي.. والتأمين الجسدي.
ولذلك فلم تكن المومياء.. مجرد شاهدة علي عصرها الذي حنطت فيه.. فحسب.. وإنما كانت مؤرخة ومرآة لهذا العصر.. وان رحلة المومياء.. ليست رحلة النهاية والفناء وإنما هي رحلة لحياة ثانية وبعث جديد.. إلي رحلة الخلود والتعميم الدائم.
آثار كل عصر.. هي الكاشفة له.. ولأحواله السياسية والاجتماعية.. ولذلك فعندما نشاهد أحوال العشوائيات وما جري للاحياء الشعبية.. وفي حي باب الخلق.. واختفاء منزل الشاعر الراحل محمود أبوالوفا.. فنحن نقرأ تاريخ حقبة طويلة عشناها.. نراها ونلمسها.. ولسنا في حاجة لقراءة الكتب التي تتناول انجازات حكامنا.. لأن المخلفات المعمارية.. لا تكذب.. ولا تتجمل!
المتحف الإسلامي
تاريخيا.. كان اسمه عند انشائه سنة 4091 »دار الآثار العربية«.. وبعد تجديده وترميمه سنة 2591.. صدر القرار بتغيير اسمه وأصبح »متحف الفن الإسلامي« في باب الخلق!
وأثير أيامها جدل بين جماعة المثقفين.. شارك فيه عدد كبير من المفكرين.. من بينهم المفكر الراحل محمد شفيق غربال.. حول الاسم الجديد.. وهل من المناسب ان يبقي الاسم الذي تتجلي فيه الشخصية العربية.. شخصية الفرد وشخصية الجماعة.. حيث تتلاقي فنون الشعوب التي كونت الأمة العربية.. بما فيها من محافظة علي تراث ينتقل من سلف لخلف.. أم يطلق عليه دار الفن الإسلامي.. أو متحف الفن الإسلامي.. وأيهما أصح؟!
تباينت أيامها وجهات النظر.. قال البعض ان الفن.. باسمه الجديد يعبر عن فن الشعوب الإسلامية سواء كانت عربية أو غير عربية وبالتالي فالوصف هنا أعم وأشمل.. وهو ما ينطبق أيضا عند تسمية الفلسفة أو العلم.. إذ لم يختلف الأوروبيون الذين تعرضوا لتاريخ العلم.. والفلسفة حول تسميتها بالإسلامية.. وكذلك سماها من اشتغلوا بهما من العرب وغير العرب.. من المسلمين ومن غير المسلمين.
وقال بعض آخر ان الاسم القديم يتناول قضية أساسية من قضايا التاريخ العربي وهي قضية الوحدة الإقليمية.. علي الرغم من ان العقيدة اكسبت الفن.. قدرا كبيرا من الوحدة.
وأثير أيامها حوار ثقافي رائع.. نفتقده هذه الأيام.. تناول بالتفصيل نوع الفن السائد في كل إقليم من أقاليم الدول العربية.. وتطور الفن في المجتمع العربي.. ومصير هذا الفن العربي في ظل التطورات السياسية التي لحقت بكل دولة وأدت في بعض الأحيان لظهور تيارات ترفع الشعارات الإسلامية وتدعي ان الابتكار.. هو محاكاة للخلق.. وترفض الابداع.
المهم.. ان المتحف الإسلامي ظل يؤدي دوره في الحفاظ علي العديد من المقتنيات والقطع الأثرية والمخطوطات.. إلي ان تعرضت للتدمير علي أيدي عصابات الإرهاب التي تحارب الإسلام والمسلمين تحت شعارات الدفاع عن الإسلام.. ومن بينها »ابريق عبدالحكم بن مروان«.. ومنذ أيام نشرت صحيفة »الأهالي« الناطقة بلسان حزب التجمع.. تحقيقا صحفيا متميزا للزميلة أمل خليفة.. تناولت فيه حجم الدمار الذي لحق بالمتحف ومقتنياته تحت عنوان »أعداء الحضارة.. لن يغتالوا التاريخ«..
في هذا التحقيق أشار الدكتور أيمن فؤاد استاذ التاريخ بجامعة الأزهر.. لأول مرة.. لحجم الدمار الذي لحق بدار الكتب.. والبلل الذي لحق بعدد من المخطوطات والبرديات نتيجة انفجار ماسورة مياه.. من جراء الانفجار الإرهابي الغاشم.
نحن أمام عصابة إجرامية.. تستخدم كل أسلحة الخسة والنذالة والوحشية.. لإرهابنا.. ولكننا في النهاية سوف ننتصر.. لأن الله معنا.. وكل ما نتمناه ألا يأتي اليوم الذي تموت فيه المتاحف أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.