أثناء حرب 1967، عاش الطفلُ أياماً عصيبة، غير مُدرك لماذا تُطلي النوافذُ ومصابيحُ السيارات باللون الأزرق، ولماذا تُبني الحوائط أمام بوابات العمارات بالطوب الأحمر، لماذا تُطلق صَفارات الإنذار ليل نهار، ولماذا تنزل الأسرةُ والجيران فُراديً وجماعات إلي المخابئ تحت جُنح الظلام، لماذا يرتسم القلق والخوف علي وجوهٍ الجميع، حتي يتنفس الجميع الصُعداء حين يستمعون إلي صفارات الأمان. لم يكن مُدركا لمعني كلمة هزيمة، ولا مستشعرا عار النكسة وذل الانكسار. لم يستوعب لماذا أخذ الشعب الشوارع والميادين يومي 9 و10 يونيو بعد خطاب التنحي، في سابقة لم يشهد لها العالم من قبل مثيلا. يطالب الشعبُ الزعيمَ بالبقاء وهو في أسوأ لحظات سقوطه وأقسي لحظات انكساره. لم يفهم الطفل وقتها طبيعة الشعب المصري، وما يتحلي به من صفات الصمود والتحدٍي وإلارادة. لم يدرك ساعتها أن هذا الشعب العظيم كان يبعث برسالة قوية إلي قواته المسلحة قبل زعامته، مُستعيدا الثقة بها، ومؤكدا أنه سيظل دائما علي الوعد والعهد معها. وبعد عامين، توسعت فيهما مدارك الطفل الذي أضحي صبيا، بدأ يستمع إلي أخبار حرب الاستنزاف، إلي ملحمة تدمير إيلات ومعركة رأس العش، والجزيرة الخضراء، والغواصة داكار، وعملية الحفار، عن استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، وغيرها عشرات من ملاحم البطولة وأساطير التضحية والفداء. وبعد ست سنوات، ولدَ الصبيُ من جديد حين استفاق علي أخبار انتصار مدوٍ وعظيم بعد ظهيرة يوم العاشر من رمضان، انتصار أعاد العزة والكرامة لمصر، بل لأمة العرب بأسرها. وما زال الصبيُ يتذكر البيانات المتعاقبة للقيادة العامة للقوات المسلحة، تحمل أخبار انتصار أسطوري تحدث عنه العالم من أقصاه إلي أقصاه. ما يزال يتذكر الأغاني الوطنية الحماسية، تلك التي حفظها، وما يزال، عن ظهر قلب. ما يزال يتذكر كيف كان استقبال للجنود والضباط في الشوارع بعد ملحمة العبور، حين استقبلهم الشعب استقبال الفاتحين عرفانا وتقديرا لمن استعاد له شرفه وهيبته، ولمن استرد له شموخه وكبرياءه. تحية إجلال وإعزاز وتقدير لكل يد طاهرة حملت السلاح ظهيرة يوم العاشر من رمضان، دفاعا عن الأرض والعرض، دفاعا عن العزة والكرامة. تحية لكل شهيد سالت دماؤة الذكية علي أرض سيناء الأبية، تحية لكل جندي، لكل ضابط، وتحية لقائد ملحمة العبور في ذكري يوم العبور. تحية قلبية خالصة لكم جميعا من هذا الصبي.. الذي هو أنا!