الحبس الاحتياطي في عهدة الحوار الوطني.. توافق سياسي وحزبي في جلسة الثلاثاء على وجود إرادة سياسية حقيقية لحل الملف الشائك    مفاجأة سارة عن نتيجة الثانوية العامة 2024 والحد الأدنى للتنسيق للشعبتين.. يكشفها خبير تربوي    تخصيص قطعة أرض بمحافظة الوادي الجديد لإقامة 35 منزلاً ريفياً    «المشاط»: الحكومة المصرية تهدف لبناء اقتصاد تنافسي جاذب للاستثمارات    استطلاع رأي ل«فوكس نيوز»: تعادل هاريس مع ترامب بولايتين وتقدمها عليه ب6 نقاط في مينسوتا    العراق يطالب في جلسة مجلس الأمن بوقف فوري ومستدام لإطلاق النار في غزة    القنوات الناقلة لمباراة منتخب مصر الأولمبي وأوزبكستان في أولمبياد باريس 2024    باريس 2024| المنتخب الأولمبي يواجه أوزبكستان بحثا عن الفوز الأول    سقوط 13 تاجر مخدرات خلال حملات في 3 محافظات    عاجل- موعد نتيجة الثانوية العامة 2024، ورابط الاستعلام    إصابة 5 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بالفيوم    أجواء ساحرة وألعاب نارية.. تامر حسنى يتألق فى حفل كامل العدد بمهرجان العلمين "فيديو"    سيلين ديون: فخورة بتقديمي حفل الأولمبياد وسعيدة بقصص التضحية والعزيمة للرياضيين    اليوم العالمى لالتهاب الكبد.. 220 مليون مصاب بفيروس B بالعالم و 36 مليونا ب C    أسقف إيبارشية نجع حمادي يترأس صلوات ذكرى الأنبا بضابا    مفاجأة في مركز محمد صلاح، ضمن أعلى 10 لاعبين أجرا في أوروبا    الموت يغيب محمود صالح نجم الأهلي السابق    "تطبيقات الذكاء الاصطناعي" بالمؤتمر السنوي للدراسات العليا بجامعة قناة السويس    مدير شبكة المنظمات الأهلية بفلسطين: انتشار سريع للأمراض والأوبئة    خفر السواحل الفلبيني يعلن تسرب الوقود من ناقلة نفط قبالة سواحلها    استجابة لمطالب الأهالي.. محافظ الغربية يتابع الحملات التفتيشية على المخابز    بعد أعمال التخريب.. تشغيل 7 قطارات سريعة بفرنسا على ثلاثة خطوط رئيسية    روسيا: الدفاعات الجوية تسقط 22 مسيرة أوكرانية فوق "بريانسك"    إعلام الاحتلال: انتحار جندي من قوات الاحتياط عند شاطئ مستوطنة نهاريا    عازفون عالميون يتألقون بحفل آمال ماهر «بليلة الأحلام»    فى ذكرى رحيل الملك.. فريد شوقى نجم كل مراحل العمر الفنى    فيلم «x مراتي» يواصل الصدارة في شباك التذاكر.. تعرف على إيراداته    خبير أسواق مال يكشف عن توقعاته لأداء البورصة المصرية بالجلسات المقبلة    إعادة توزيع أدوية وإصلاح أجهزة.. الصحة تعلن نتائج المرور الميداني على مستشفيات سوهاج    تحرير 170 مخالفة للمحال غير الملتزمة بمواعيد الغلق خلال يوم    صحة المنوفية: نتصل تليفونيا بالمرضى للتأكد من جودة الخدمة    ليفربول يواجه أزمة تجديد عقود النجوم مع سلوت.. هل يرحل صلاح وأرنولد؟    الحكومة تكشف حقيقة تغيير التصميم الفني لجواز السفر المصري    قصف صاروخي يستهدف القاعدة الأمريكية في حقل كونيكو بشرق سوريا    حالة الطقس في العلمين الجديدة اليوم.. «استمتع بالحفلات والأجواء المميزة»    بدء اختبار المتقدمين للالتحاق بمدارس التكنولوجيا وإتاحة الاستعلام عن مقر الامتحان    النائب حازم الجندى يطالب بإجراءات حكومية للسيطرة على الأسواق وضبط الأسعار    رسالة غاضبة من محمد عبد المنعم: «بجد تعبت»    عمر كمال مع سالي عبد السلام في سهرة خاصة على القناة الأولى    وزير الإسكان يُصدر 26 قراراً لإزالة مخالفات البناء بالقاهرة الجديدة والساحل الشمالي    تواصل عمليات إصلاح خط مياه الكريمات المغذي للغردقة ورأس غارب    محافظ أسيوط: استمرار حملات النظافة ورفع المخلفات ب6 مراكز    «التعليم العالي» تُغلق كيانًا وهميًا في أسيوط    فدائي ووجه ضربات موجعة للإنجليز، الوجه الآخر ل رشدي أباظة دنجوان السينما المصرية    مشادة بين أحمد كريمة وياسمين الخطيب: «مش هسمحلك تعبثي في الإسلام    عباس شراقي: لدينا احتياطي جيد من المياه بالسد العالي    اليوم.. بدء امتحانات الصفين الأول والثاني الاعدادي الدور الثاني بالفيوم    إصابة 4 أشخاص في تصادم على طريق الفيوم القاهرة الصحراوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 27-7-2024    ما هو وقت صلاة الضحى ؟ سبب تسميتها بهذا الاسم؟    14 ميدالية ذهبية بانتظار الحسم في اليوم الأول من أولمبياد باريس    9 معلومات عن لقاء وزير المالية بنظيره التركى في اجتماعات «مجموعة العشرين»    «لن أنحني».. الشيبي يوجه رسالة لجماهير الزمالك    وسط حالة من الرعب والقلق.. إصابة 4 أشخاص في انهيار عقار قديم بالمحلة    دار الإفتاء تكشف حكم إخفاء المرأة مالها عن زوجها    تكريم 450 من حفظة القرآن الكريم بالرحمانية قبلي في نجع حمادي.. صور    الصحة العالمية تعلن إرسال مليون لقاح ضد شلل الأطفال لغزة    واشنطن تطالب الاتحاد الأوروبي بضمان استمرار تجميد الأصول الروسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
ك.. 35 مشاة
نشر في الأخبار يوم 26 - 03 - 2013


جمال الغيطانى
»بعد انتهاء اللقاء السنوي لرجال الكتيبة 35 مشاة، خرجت إلي الليل أكثر تفاؤلاً، مستعيداً كل لحظة أمضيتها بحضرة القائد
اللواء متقاعد عبدالمنعم خليل، أحد أبطال الوطن..«
اللواء عبدالمنعم خليل.
الجنرال عبدالمنعم خليل.
القائد، الإنسان، المتصوف القريب إلي ربه بعد عمر أمضاه في ساحات الوغي مقاتلاً من أجل وطن أحبه وانتمي إليه مثل ذرات ترابه وجذور وأغصان نباته وجوهر ثماره، هذا إنسان مصري بسيط، عميق، مازال يسعي بيننا أطال الله عمره وقد عرفته عن بعد زمن الحرب، عندما كان قائداً للجيش الثاني الميداني خلال حرب الاستنزاف، وقد تولي قيادته مرتين، الأولي خلال تسلسله الطبيعي في القيادة، وخلالها أسس عملية الصمود، والثانية عندما صدر قرار بإعادته إلي الجيش الثاني الميداني بعد انهيار القائد اللواء سعد مأمون، وتوسع القوات الإسرائيلية غرب القناة وتهديد الاسماعيلية والجيش الثاني كله، جاء القائد الذي كان المشير أحمد اسماعيل يتفاءل به ليمارس قدراته ومواهبه التي وهبها الله، قدرته علي القيادة، اتخذ من الإجراءات ما قلب الوقف وأنقذ الموقف العسكري وجميع ما يترتب عليه سياسياً في لحظة جد حرجة.
إنه الأقدم الآن علي الإطلاق، الآن، الآن، إنه أستاذ القادة، الكل معترف له بالفضل والريادة حتي الذين يقاربونه سناً ومرتبة، أمضي إلي دار المشاة تلبية لدعوته بعد أن أسبغ عليّ شرف الانضمام إلي لقاء بعقد سنوياً بانتظام وكل عدة شهور لمن خدموا معه في الكتيبة 35 مشاة التي قادها عندما تمركزت في الموقع الشهير »أبو عجيلة«، اليوم سبت، خرجت من البيت بعد إقامة اتصلت أسبوعاً، خلوة ألجأ إليها كلما ضاق الحال وناء الصدر وثقلت الأنفاس، لست مسيطراً علي ما يمكن أن يثير في نفسي الرضا، غير أنني متفهم، تواق إلي تبدل الحال، أتابع من معزلي ما يجري، هكذا تنتفي صفة الخلوة، كما أنني متصل بالرأي العام عبر العمود اليومي الذي يضعني في مقدمة اللحظة، كل ما أفكر فيه معلن، قدري وقدر جيلي أن نكون دائماً في القلب، بالرأي، بالكتابة، بالجسد إن استطعنا إلي ذلك سبيلاً، عزلة ولا عزلة، السعي إلي خلوة فيه ترف، فكيف تتم وفي الهواء الذي نتنسمه حريق، الوطن مندلع فيه حريق، وأمس الجمعة رحت أتابع لساعات طويلة عبر التليفزيون أولي مواجهات يتدرب فيها المصريون علي ذبح بعضهم، إنها المرة الأولي التي يواجه فيها أبناء الوطن بعضهم البعص فهنيئاً لمن يدير دفة البلاد وقد أوصلنا إلي ذلك، إلي الدم الذي لن يثمر إلا دماً، إلي العنف الذي لن يرد عليه إلا بالعنف، كان الأمس الجمعة يوماً عبوساً بحق، حتي الطبيعة شاركت فيه بترابها الذي حرمني من ضوء يوم الجمعة الذي أنعم به صيفاً أو شتاء، ومن خلاله أقوم بتنظيف مكتبتي وأرعي الكتب في مراقدها، أستعيد ألفتها وأنتبه إلي عناوين نسيت أنها عندي، مازلت أعتمد علي الذاكرة في الحفاظ عليها وفهرستها، كان الجمعة يوماً طويلاً، حزيناً وباعثاً أيضاً علي التفاؤل بروح هذا الشعب وجرأته علي تحدي العنف والظروف الطارئة، في تلك الظروف جاءتني قبل أيام دعوة اللواء، القائد، عبدالمنعم خليل، أبلغها لي أحد رجاله الأوفياء اللواء سمير بركات، عندما يوجه اللواء عبدالمنعم الدعوة فليس بوسعنا إلا التلبية، يغمرنا سرور وارف لاقترابنا من هذا العظيم الذي أتمني لو أن قومي عرفوه كما عرفت.
إحدي قاعات دار المشاة
السابعة مساء
الدماثة، الرقة، احترام الصلة، الوفاء، قيم عديدة تجسدت سواء في شكل اللقاء الذي أداره اللواء عبدالمنعم خليل بموهبة القيادة الفطرية التي جُبل عليها، كان لطيفاً في تقديمه للمتحدثين، صارماً مع من يتجاوز الوقت أو يسترسل، قادراً علي اقتناص اللحظات المولية والتي يثير بعضها الحنين والابتسام، طوال ثلاث ساعات متصلة لم يذكر الكثير من القادة الاخرين الا وأحاطة الأحترام ، رغم معرفتي الوثيقة أن البعض قد يكون لديه ملاحظات علي هذا أو ذاك، الملامح الشخصية والعسكرية للواء عبدالمنعم خليل بدت من خلال حديث الضيوف عنه، قال الفريق صلاح عبدالحليم إنه سيذكر موقفاً واحداً، في اليوم التالي للخامس من يونيو صدرت إليه تعليمات من رئيس الأركان وقتئذ الفريق أول محمد فوزي يأمره بالتوجه إلي سيناء فقد فقد الاتصال بلواء المظلات المتمركز في شرم الشيخ والذي يقوده اللواء عبدالمنعم خليل، قال بالنص »مانعرفش هما فين دلوقتي«، كانت القوات قد بدأت الانسحاب في فوضي عارمة، بدا التأثر علي وجه الفريق صلاح وهو يصف تداخل رجال الهجانة بالمدرعات المحترقة والذعر الإنساني وانفراط عقد التشكيلات، اندفع متجهاً إلي داخل سيناء، وعند نقطة معينة التقي بطلائع لواء المظلات الذي كان مكلفاً بإغلاق مضايق تيران في خليج العقبة، في العادة عندما تنسحب القوات يكون القائد في النسق الثاني من التشكيل ، كان اللواء عبدالمنعم خليل في النسق الأخير، آخر رجاله حتي يطمئن علي سلامة التشكيل.
عندما جاء الدور علي العميد طيار جمال الجندي، طلب منه »قوم اقف« قال برقة: أنا باحييك يا جمال، كل يوم جمعة، الساعة التاسعة صباحاً بالضبط يرسل إليّ رسالة علي التليفون.
عندما قدم الفريق صفي الدين أبوشناف قال إنه مثل اسمه، صفاء، وفاء عطاء، ثم سأله مداعباً: إيه أخبارك الكنكة؟، ضحك الجميع، روي الفريق حكاية الكنكة، قال إنه أثناء خدمته بالكتيبة 35 فوجئ بزيارة القائد عبدالمنعم خليل، كان ذلك في الخمسينيات، وعندما سأله: تشرب إيه سيادتك؟، أجابه: قهوة سادة، كان الوضع في الصحراء، ولكن كانت هناك كنكة لها شبكة، تفحصها قائد الكتيبة مبتسماً وطلب من الضابط صفي الدين أبو شناف ألا يتعب نفسه، قال الفريق صفي إنه يعتز بانتمائه إلي هذا الجيل من الجيش المصري، جيش حارب منذ عام 6591 وحتي حرب تحرير الكويت في التسعينيات، كلمات لها معني متعدد، تستحق التأمل العميق.
بين الحضور د. محمد ابن اللواء عبدالمنعم خليل، طبيب كبير، قال الأب وهو يقدمه، إنه يحمد الله إذ وهبه محمد وأحمد، تحدث عن محمد الذي أصبح جداً لحفيدة تزوجت وكان زوجها الطبيب ماثلاً في اللقاء، قال إن محمد يزوره يومياً في الصباح، ويعد له الإفطار، ويصحبه إلي المستشفي.
توالت الذكريات والإضاءات، وكان قائد الكتيبة بين رجاله متألقاً، هادئاً، محققاً ذلك التواصل بين القمة والقاعدة الذي تميز بالقدرة علي تحقيقه، إنني أتمني علي الفريق عبدالفتاح السيسي تكريم اللواء عبدالمنعم خليل، القائد، المعلم، الإنسان. عند انصرافي من اللقاء كنت غنياً بالمشاعر، متفائلاً في زمن عز فيه التفاؤل وتراكمت الكرب العظام، لعل بأمثال هؤلاء الأبطال يحدث الله أمراً.
من الأدب الأجنبي
من أجمل ما قرأت خلال الفترة الماضية رواية لا تلتزم بأي قواعد مألوفة للرواية حتي التجريبي منها، تأليف الأديب الفرنسي جان دورمسون وترجمة منار رشدي أنور، صدرت الترجمة من المشروع القومي للترجمة، والغريب أنها تطرح أسئلة لطالما تناولتها فيما كتبت مما يدل علي أن الهم الإنساني واحد، من فصولها المتعددة اخترت هذا الجزء بعنوان »الرغبة«.
الرغبة
صراحة، في حياتنا اليومية لا نولي بالاً لنهاية الكل. ونهايته الحتمية لا نبالي بها قدر عدم مبالاتنا بنشأته الأولي. حتي نهاية كل واحد منا، نفكر فيها بفضل الله بنوع من الاستخفاف الآثم، بلا شك، ومن الوقاحة التي ربما أخذنا نفسنا عليها في يوم من الأيام، عندما يحين الوقت. الحياة تهتم بالحياة وتدير رأسها للموت الذي تحاول نسيانه.
إذا كان هناك شيء يرافقنا طيلة مرورنا في حياتنا الدنيوية علي سطح الأرض فهو ليس التفكير في الموت أو في النهاية، بل إنه هذا الانطلاق الخفي نحو الوجود والذي نطلق عليه اسم رغبة. الرغبة في كل مكان، وهي تخترق طريقها عبر الجنس والحب الاستحواذ علي السلطة واللعب والمال والمعرفة والأمل. هي تستحوذ علي كل البشر وتختفي وراء السر، وفي كل مكان حيث المستقبل يعقب الماضي، هي هنا تمارس عملها. قبل أو بعد أسرار البداية والنهاية، يرغب الكل في الاستمرار في الزمان والمكان. الإنسان يرغب أيضاً في البقاء علي قيد الحياة وفي الازدهار. إن الأمر الأول الذي أصدره إله التكوين للحياة كان بأن تزدهر في الوجود وأن تتكاثر. تكاثر البشر وازدهروا. حتي عندما لا تغمرنا السعادة، يكون كل واحد منا دفعة نحو ذاته ونحو شيء آخر.
كل شيء يرغب كل شيء. كل شيء يأمل في الاستمرار والتغير وعدم الاختفاء وممارسة العمل وبلوغ السعادة المتناقضة غالباً ولقد كتب باسكال قائلاً: »إن كل البشر يبحثون عن السعادة، بلا استثناء وأياً كان اختلاف الوسائل المستخدمة. هذا هو دافع كل الأفعال وكل البشر، حتي هؤلاء الذين سيشنقون أنفسهم«. بل وفي التميز عن الآخرين والاختلاط بهم. حتي المادة ترغب في أن تصبح حياة. وهناك رغبة الأرض كما رأيناها بالفعل في الدوران حول الشمس، وهناك رغبة المجموعات الشمسية في التباعد عن بعضها البعض، ورغبة الزمن في إفناء الكل، وهناك رغبة الحب ورغبة الغد. الشمس تشرق والشمس تغرب وهي تتنهد عند المكان الذي ستشرق فيه من جديد. ولو لم يكن البشر يرغبون في آن واحد في البقاء علي ما هم عليه وفي أن يصبحوا مختلفين عنه، لتوقف العالم من فوره.
نحن لا نعلم شيئاً عن الغد، غير أن الرغبة ستواصل سيرها وسوف يدفعنا كما يفعل بلا كلل أو ملل منذ ملايين وملايين السنين إلي البقاء علي قيد الحياة وإلي التكاثر بصورة أو بأخري وإلي البقاء علي ما نحن عليه، إلي الاستمرار في الوجود وإلي التغير إلي شكل آخر. ما هذا الشيء الآخر؟ لا نعلم. إن السر الأعظم للكائن لا يتوقف عن الانتشار علي كل ليس إلا لغزاً وسراً. الرغبة لا تقدم تفسيراً لنفسها. هي غامضة ومعتمة. وقد نقول إنها بعد أن ساقت حتي البشر كل أعمي وأبكم، دفعت بهم إلي شيء آخر في خضم الأقوال والصور، شيء أبعد من أن ينشر الضوء وإنما يزيد من الظلمات. ظلمات مبهرة تسطع فيها اللغة والرياضيات والحرية والثورة والجمال والمعني وإن كانت ظلمات رغم كل شيء. »نحن في اللامتصور كما يقول رينيه شار ولكن من حولنا معالم مذهلة«.
»افتح الكتاب..«
الأحد:
مازلت أذكر هذا النداء الذي يصيح به مغربي مجهول سواء في القرية أو في الجمالية يحمل كتابا قديما ، والكتاب غالبا ما يكون مخطوطا قديما مجلدا مكتوبا بالقلم المغربي، تتخلل سطوره مثلثات ومربعات داخلها أرقام ورموز ودوائر بلونين اسود واحمر، بعد أن يسأل المغربي اسئلة عن الاسم واسم الاب والام، يبدأ في قراءة الطالع، لقد رأيت العديد من المغاربة ولكن لا اذكر ملامح محددة لشخص معين، إنما أذكر جيدا الهيئة العامة، خاصة الجلباب ذا الغطاء الخاص بالرأس »البرنس« أو كما يسمي في المغرب »السلهاب«. هذا المغربي الذي كان يظهر فجأة، في القري أو الاحياء القديمة ، غالبا ما يكون في رحلة الحج التي بدأها سيرا علي الاقدام من فاس أو تلمسان أو طنجة أو ورزازات في جبال الأطلسي، استمر ذلك حتي الستينات من القرن الماضي، قبل صعوبة اجتياز حدود الأقطار العربية، والانتقال، كان اولئك الحجاج المغاربة يقطعون الطريق الي مكة سيرا علي الاقدام، اما في قوافل، أو بمفردهم، وربما شرد من رأيتهم عن القافلة، حتي الآن هناك افارقة يفضلون الحج برا، فكلما زادت المشقة عظم الثواب.
هذا المغربي الذي يقطع الطريق الي البيت الحرام، اما أن ينزل ضيفا علي القوم، وهذا ما نجده في الرحلات المشهورة لابن حبير ولابن بطوطة وغيرهما، لكن هؤلاء كانوا علماء، يقيمون ضيوفا علي الحكام ويصدرون الفتوي احيانا ومنهم من تولي القضاء أو لعب أدوارا سياسية مثل ابن خلدون، لكن البسطاء، الفقراء، كانوا يقيمون أودهم من اعمال يمارسونها، اشهرها فتح الكتاب، أي التنجيم وقراءة الطالع، من أجل اكتشاف الغيب.
كان للمغاربة مصداقية خاصة.
لماذا؟
لانهم جاءوا من بعيد، وكل قادم من بعيد تحيطه هالة معينة، فهو غامض الي حد ما البعد يرتبط بتماهي الحدود بين التفاصيل، بين البداية والنهاية بين الاقامة والرحيل، يصبح البعيد مصدرا لتساؤلات، ولعلامات استفهام لا حصر لها، للبعيد دائما هالة خاصة، وكلما ازداد البعد تضاعفت الهالة، وازداد التعلق.
جميع اقطاب الصوفية في مصر جاءوا من بعيد، خاصة المغرب، بسيدي احمد البدوي ومثواه الآن في طنطا وسط الدلتا، يؤم ذكري مولده السنوي اكثر من ثلاثة ملايين في وقت واحد. انه من فاس، وقد جاء الي مصر في مرحلة حساسة جدا من الحروب الصليبية، ولأنه جاء من بعيد، فقد اصبح له مقام خاص، احاطته الهيبة، ونسجت من حوله الأساطير، اشهرها أنه كان يمديده فيحرر اسري المسلمين في بلاد الفرنجة، وحتي الآن ينشد الصوفية في الأذكار.
من ديوان الشعر العربي
قال الإمام جلال الدين السيوطي
قد بُلينا في عصرنا بقضاة
يظلمون الأنام ظُلماً عمّا
يأكلون التراث أكلاً لمّا
ويحبون المال حباً جمّا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.