»تزور مصر الآن المستعربة الألمانية كلوديا أون لتحدثنا عن ألف ليلة وليلة في ألمانيا، وعن كتاب آخر شبيه الليالي لكنه مختلف تماماً.. تزور مصر بدعوة من معهد جوتة المستعربة الألمانية كلوديا أون، أستاذة الأدب العربي والمتخصصة في ألف ليلة والتي قامت بتقديم ترجمة جديدة لها منذ عدة سنوات، ولأنها تعايش ألف ليلة وليلة منذ أكثر من ثلاثين عاماً فإنها لا تقرأها في الندوات إنما تتلوها، تحفظها عن ظهر قلب، وهي عازفة ماهرة علي الناي امتداداً لاهتمامها بمولانا جلال الدين الرومي الذي جعل الموسيقي من الطرق التي يسلكها الإنسان إلي خالقه، وقد كونت فرقة صغيرة تقدم أشعار مولانا في الأمسيات الثقافية بألمانيا، هذه المرة تجييء إلي القاهرة للمشاركة في معرض الكتاب ولتقديم كتابها الجديد »مائة ليلة وليلة« وهذا نص غير معروف في مصر، لا علاقة له بألف ليلة وليلة الشهيرة، وكان الباحث التونسي الدكتور محمود طرشونة قد قدم منذ سنوات تحقيقاً لهذا النص، إلا أن الدكتورة كلوديا اكتشفت مخطوطة جديدة كتبت في الأندلس عام ستمائة وأربعة هجرية، وبذلك تكون من أقدم المخطوطات التي دونت لكتاب يحمل اسماً مقارباً للكتاب الأشهر والذي مازال يثير المشاكل عن تجربتها في النصين وتقديمهما إلي اللغة الألمانية، الندوة الأولي أقيمت الأحد الماضي في جناح معهد جوتة، والثانية يوم الاحد العاشر من فبراير في مقر إقامة أساتذة الجامعة الامريكية بالزمالك والأخري ستقام في بيت السحيمي يوم الحادي عشر من فبراير. ألف ليلة وليلة من النصوص العظمي التي كان لها تأثير عميق علي حياتي وتكويني، وقد قرأتها مبكراً في صباي، طبعة كاملة من مكتبة صبيح المواجهة للأزهر والتي اختفت الآن واختفي معها آلاف العناوين المهمة من التراث العربي فقد تخصصت المكتبة فيه، بالأخص ما يدرس منها في الأزهر، وخلال التسعينيات تعرض ورثة الناشر لمشكلة من جانب بعض المنتمين إلي تيار الإسلام الزراعي، ورفعت قضايا تطالب بالمصادرة، غير أن القضاء المصري أنصف النص بحكم تاريخي، ستظل ألف ليلة مثيرة للجدل طالما ساد الجهل والتخلف، وقد قرأت الليالي مراراً، وأسميها بيني وبين نفسي، »نص النصوص«، إنها أعظم ما حكاه الإنسان في كل آداب العالم، وقد أنفقت قدراً غير يسير من عمري في خدمتها وتقديمها. عمر مع الليالي في الطفولة بالتأكيد، ثمة حملة وثيقة بين نشأتي في القاهرة القديمة وألف ليلة، ليس بسبب طباعتها في المكتبات المحيطة بالأزهر، خاصة مكتبة ومطبعة محمد صبيح التي تخصصت في طبع الليالي منذ بداية القرن العشرين، طبعة علي الحجر مزودة بصور توضيحية رسمها فنان مصري مجهول، كانت هذه الطبعة تقع في أربعة مجلدات، إنها نفس الطبعة التي استهدفها بلاغ أحد المصريين الذي قدم إلي شرطة الآداب عام ستة وثمانين باعتبار الليالي عملاً فاحشاً يتساوي مع المؤسسات والأعمال الفاضحة التي تقع في اختصاص شرطة الآداب، وقدر لي أن أخصص الصفحة الأدبية بجريدة »الأخبار« التي كنت مشرفاً عليها وقتئذ للدفاع عن الليالي تحت عنوان »دفاعاً عن شهرزاد« وانتهت المحاكمة أمام محكمة الاستئناف التي أصدرت حكماً تاريخياً ضد المصادرة وضد كل من يعتبر ألف ليلة وليلة عملاً إباحياً، ثمة صلة بين القاهرة القديمة والليالي، في درب الطبلاوي، الحارة العتيقة التي كان يوجد بها قصر المسافر خانة الأثري والذي احترق عام سبعة وتسعين، تكاد تكون القاهرة القديمة هي الترجمة المكانية الموازية لأحداث الليالي، وفي تقديري أن بغداد المذكورة ليست إلا القاهرة، ولكن استحضار مكان بعيد يرتبط بمجد الحضارة العربية الإسلامية وله موقع خاص في الخيال الشعبي المصري ومنه جاء لفظ »البغددة« المعبر عن الرفاهية والعز المبالغ فيهما، المكان في الليالي هو القاهرة حتي وإن أطلق عليه بغداد، لقد نشأت وتفتح وعيي علي واجهات البيوت القديمة ومقرنصات المساجد والمآذن السامقة والقباب، وعبرت تلك النواحي المثقلة بالعتاقة، ورأيت الوجوه التي تحيط بمسجد مولانا وسيدنا الحسين المركز الروحي لمصر، والأزهر المسجد والجامعة، المركز العلمي والديني للعالم الإسلامي، في المقاهي القاهرية العتيقة قبل اختراع الراديو كان الرواة يقصون علي المستمعين الليالي شفاهة مع الموسيقي الصادرة عن الربابة. كان الشعراء الرواة يقصون علي الناس الملاحم الكبري، عنترة بن شداد، الظاهر بيبرس، الأميرة ذات الهمة، سيف ابن ذي يزن، الهلالية وهي الملحمة الوحيدة الباقية حتي الآن شفاهة وتنشد كاملة في جنوب مصر.. كانت الليالي من النصوص التي يحرص القاهريون علي الاستماع عليها في القاهرة التي تخصصت فيها، فلكل مقهي ملحمة تروي فيه، من هنا عرفت بعض المقاهي بأسماء الملاحم التي تنشد فيها، كان الرواة الشعراء الشعبيون فقراء، يحفظون الليالي والملاحم ويتكسبون من العيش بها، وكان وضعهم في المجتمع متدنياً، ربما يفسر لنا ذلك وضع الليالي في نظر الناس، خاصة المثقفين، كان الأدب الشعبي خارج السباق، الأديب الجدير بالاحترام هو من يكتب بالفصحي، وينشد الشعر بالفصحي، وفي القرن التاسع عشر ظهرت المطبعة، وبدأت النصوص الشفهية تتحول إلي نصوص مكتوبة، مطبوعة، لكنها ظهرت بدون مؤلف معروف، لم تنسب إلي كاتب بعينه، أي لقيطة بدون نسب، وللنسب في الثقافة العربية شأن عظيم، لذلك ظلت النظرة إليها دونية، بل أصبح بعضها مثل الليلي من النصوص المحرمة، تقرأ في البيوت سراً، صحيح إنها محرمة خاصة في الطبقة الوسطي، ولكنها موجودة أيضاً، في نفس الوقت لأن الليالي مبدعة خارج السياق الرسمي فقد عبرت عن المسكوت عنه في الأدب الرسمي المعتمد، لا أقصد بذلك الجنس، فجميع النصوص الأدبية العربية لكبار المبدعين تحوي من معالجة أمور الجنس ما لا يجرؤ أي أديب عربي علي الإقدام عليه الآن، ولكن الليالي عبرت عن العقل الجمعي المكبوت سواء فيما يتعلق برؤية الكون، أو الوجود، ولأن الراوي غير معروف، فقد تحققت في الليالي حرية قصوي، فمن يمكن محاسبته هنا؟ القراءة الأولي كان تعرفي إلي الليالي حدثاً مهماً في حياتي، فقد قرأتها وأنا دون العاشرة، كانت البكارة في القراءة تدفعني إلي معايشة ما أقرأ وليس الاطلاع عليه فقط، لذلك كنت أكاد ألمس شهرزاد وأختها دنيازاد، وأكاد أشهق مع طيران الرخ والسندباد متعلقاً به، كانت قراءة الدهشة والاكتشاف لعوالم سحرية غير قائمة في الواقع لكنها تجسد واقعاً موازياً يتداخل مع القائم بالفعل فتتسع الآفاق وينطلق الخيال ويتجدد باستمرار، قدمت ألف ليلة عبر وسائط أخري، أهمها كان مجلة تصدر عن دار المعارف، اسمها سندباد، وكانت تتخذ أحد أشهر الأسماء من الليالي، السندباد الرحالة، مخترق الآفاق، كان يكتب السيناريو المصاحب للرسوم محمد سعيد العريان، أما الفنان الذي جسد الليالي بريشته فكان بيكار وهو أحد أكبر الفنانين المصريين في القرن العشرين، لا يرد اسم السندباد علي ذاكرتي أو سمعي، إلا ويتجسد عبر ريشة بيكار كما رأيتها طفلاً، ولا يرد اسم شهرزاد إلا وأصغي إلي صوت الفنانة زوزو نبيل التي كانت تؤدي دورها في المسلسل الإذاعي الشهير »ألف ليلة وليلة« والذي بثته الإذاعة المصرية في الخمسينيات خلال شهر رمضان، وكتبه الشاعر والأديب طاهر أبو فاشا، وكانت المقدمة الموسيقية من المتتالية الشهيرة للموسيقار الروسي ريكسي كورساكوف، لقد جري تحول في الموقف من ألف ليلة منذ الثلاثينيات في القرن العشرين عندما أقدم الدكتور طه حسين أحد أعظم المثقفين المصريين علي تشجيع تلميذته سهير القلماوي علي إعداد رسالتها لنيل درجة الدكتوراة حول الليالي، وكانت الرسالة الرائدة أول مثول أكاديمي رفيع المستوي لألف ليلة في الجامعة المصرية، وبرغم ذلك ظلت رؤية المثقفين في تقديري لها متدنية، لم يعتبرها معظمهم عملاً جليلاً، شامخاً، معبراً عن روح إنسانية عميقة، ورؤية كونية منطلقة من خصوصية إسلامية مستوعبة لتراث الشرق كله. اكتشاف مستمر تعددت قراءاتي لألف ليلة، وفي كل مرة أكتشف جديداً، يتضح لي عمقاً ومستوي لم أكن أعرفه، لقد وضعت أمامي الليالي باعتبارها النص الذي يجب أن أحاول تجاوزه، ورغم إدراكي استحالة ذلك إلا أنني بعد أكثر من نصف قرن من الكتابة لم أتراجع عن هذا الطموح، لعل وعسي، أما القراءة واكتشاف المستويات المتعددة الخفية داخل النص فما تزال متعددة، مستمرة، ما استوقفني خلال التأمل علاقة الليالي بالفن العربي الإسلامي، وقد فصلت هذا في تأملي للصلة بين النص وفن الزخرفة الأرابيسك وكذلك تخطيط المدن، في رأيي أن المرجعية هنا قديمة ترجع إلي خصوصية الرؤية الشرقية إلي الوجود والكون، خاصة فيما يتعلق بالصلة بين الجزء والكل، هذه الرؤية تتجسد في القرآن الكريم الذي أصبح النص المرجعي لجميع الإبداعات في العصور الإسلامية، كل آية يمكن قراءتها بذاتها، وإذ تتصل ببعضها تتكون السورة، ومن مجموع السور يتكون القرآن الكريم، هذه الرؤية نجدها في الزخرفة، في العمارة، في النصوص الأدبية الكبري ومنها الليالي، الليالي التي تتوالي فيها الحكايات واحدة وراء الأخري للتعلق بالحياة، الحكي هو الحياة، والتوقف عنه يعني الموت، الفناء، ليست الحياة إلا حكياً مستمراً، بتوقفه يكف التدفق وتمتنع الحياة. تعلقي بالليالي دفعني إلي خدمة الكتاب، خاصة في السنوات الأربعين الأخيرة منذ السبعينيات التي شهدت صعوداً للتطرف الديني المعادي للإبداع وللثقافة عموماً، وأيضاً تزايد التأثير الوهابي الذي غير منظور التعامل مع التراث العربي وحد من انتشار المصادر الكبري للفلسفة الإسلامية والتصوف والنصوص الأدبية ومنها الليالي. في منتصف التسعينيات طبعت بالتصوير طبعة كلكتا، وكان القراء المعنيون يسمعون عنها ولم يروها، ولحسن الحظ عثرت علي نسخة أصلية في دار الكتب المصرية، وظلت طبعة بولاق غير متاحة إلا لمن لديه الإمكانية المادية، وكان قراري عندما استأنفت الإشراف علي سلسلة الذخائر التي أسستها في التسعينيات وتصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة إصدار طبعة منها بالتصوير حتي لا تتحول الليالي إلي أثر خفي ولتظل فاعلة في حياتنا الثقافية، ان الضجة التي أثارها بعض المتطرفين، المعادين للثقافة حول الليالي لا ترهبني في الدفاع عن أحد أهم الإبداعات الإنسانية، وأكرر مرة أخري إن أبلغ إساءة إلي ديننا الإسلامي هو الهجوم علي النصوص الثقافية والأدبية باسم الدين. إن خدمة ألف ليلة والنصوص الأدبية الكبري التي باتت الآن محجوبة بسبب تصاعد التشدد والمذاهب الداعية إلي الانغلاق والتي جلبت علي الإسلام والمسلمين أبلغ الأضرار، خدمة هذه النصوص وإتاحتها واجب ثقافي وإنساني، ليست ألف ليلة إلا تجلياً للإبداع العربي ولعل الصلة بين الليالي والفنون الأخري أبلغ دليل علي ذلك، وهذا ما أتوقف عنده. من ديوان الشعر العربي صحبة وكنت أذم إليك الزمان فأصبحت منك أذم الزمانا وكنت أعدّك للنائبات فها أنا أطلب منك الأمانا إبراهيم بن العباس الصولي