الاقتحام مفاجئ، مُخيف، يهز أرجاء المكان، الأسلحة مُشهرة في وجه الجميع، أوامر المقتحمين خشنة مدوّية، تُصدر التعليمات للحضور بالانبطاح أرضًا. صيحات الجميع مُرتعدة كأنها تخرج من أحبال صوتية إضافية، الصياح يتحول إلي صراخ ملتاع، وجِل؛ الأوامر تتكرر بنبرة حادة: انبطحوا وإلا هلكتم جميعا. الأقدام تنفذ دون انتظار لإشارات من المخ، الجميع ركوع، الأيادي أعلي الرؤوس، اليمني فوق اليسري، الصراخ يهدأ، يغدو بكاءً، الدموع تثير أعصاب الجناة، فتأتي الأوامر بالخشوع، يصير البكاء نحيبا مكتوما، تعلو همهماته بين الحين والآخر.. المجرمون يفرضون السيطرة، يضعون الشروط، وأصحاب المكان في انبطاحة مؤلمة، موجعة للكبرياء. ليل داخلي.. اليوم الثالث، لا انبطاح الآن لأي محتجز، الرهائن يمارسون طقوس حياتهم رغم الحصار والاحتباس، السلاح متروك أمامهم دون حارس من المقتحمين، الامتثال فقط هو سيد الموقف لأوامر ربما لم تصدر!! نهار خارجي.. النجدة تُحكم سيطرتها علي الموقف، تُؤمن خروج الرهائن بعد احتجاز ستة أيام دُرست خلالها مخاطر المجازفة لتحرير الرهائن، المكان مُحاصر والهلع يُصيب الجميع، رهائن وجناة. نهار داخلي.. الصراخ يعود للمكان، أطراف الرهائن يكاد يُسمع صوتها من الارتعاد، الجناة يبحثون عبثاً عن سلاحهم المهمل منذ الانصياع.. المناشدات بالخروج تصل للداخل عبر مكبرات الصوت، الجميع يتمسك بالبقاء، حاجزًا ومحتجزًا!! الكل في سلسلة واحدة، اختلط الجاني بالمجني عليه، محاولات النجدة مضنية لتفريغ المكان، الكل يخرج أخيرًا بعد الإقناع، الرهائن يُدافعون عن محتجزيهم باستماتة، يتعلقون بهم في سابقة هي الأولي!!. هذا ليس شريطًا فيلميًّا عسلي اللون، ولا قصة خيالية، هي حادثة حقيقية وقعت في بنك كريديتبانكين في عاصمة السويد ستوكهولم، ولغرابة سلوك الرهائن أسست لمرض نفسي جديد عرفه علماء النفس بمتلازمة ستوكهولم، وحدثني عنه صديقي د. عمرو عثمان أستاذ الإدارة بالجامعة الفرنسية، عندما تناقشنا في فكرة استعذاب الألم والانصياع من دون أوامر والارتباط بالجاني. وشرح لي أنه عندما تكون الضحية تحت ضغط نفسي كبير، فإن نفسه تبدأ لا إرادياً بصنع آلية نفسية للدفاع عن النفس، وذلك من خلال الاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدي الجاني حركة تنم عن الحنان أو الاهتمام حتي لو كانت صغيرة جدًّا فإن الضحية يقوم بتضخيمها وتبدو له كالشيء الكبير، وفي بعض الأحيان يفكر الضحية في خطورة إنقاذه، وأنه من الممكن أن يتأذي إذا حاول أحد مساعدته أو إنقاذه، لذا يتعلق بالجاني، وعلي الرغم من قدم المرض الذي عُرف في العام 1973 الا أنه لايزال يُطاردنا في عوالمنا المتأخرة حتي اليوم. غربة رتب دفاتره بعناية فائقة، ربما لم تحدث من قبل، الأكبر في الأسفل والأقل حجمًا طولًا وعرضًا إلي أعلي، من يدري لعلها المرة الأخيرة له هنا في هذا المكان، لملم مقتنياته، قدّاحته المعدنية ذات البكرة الخشنة، هنا في جرابها الجلدي الأنيق، حافظته الصغيرة في جيبه الخلفي من ناحية اليمين لعله يُسأل عن أوراقه، علبة سجائره الفاخرة صاحبة العلامة الأجنبية التي تحمل ثلاث كلمات لاتينية مُبهمة للجميع "Vini Vidi Vic « قرر المغادرة أخيرا إلي حيث لا يعلم للمرة الأولي، لكنه سيذهب، ربما هرباً من شعور طرأ مؤخرا، قد يجئ يوم ويصبح إحساسه الجديد ذكري هو الآخر، سحب الباب بمشط قدمه من الخارج، أعاقته أحماله عن جذبه رغم فروغ يده، صريرًا قديمًا أصدره الباب، قبل أن يبيت لسان الباب في جُحره، عاد ثانية يتفحص المكان بتفاصيله، مؤكد سيفتقده، الذكريات هنا في كل ركن ركين، كل ذكري تحمل خاطرة، أو موقفًا أحيانًا. دراجته الصدئة ذات العجلات الثلاث، هنا ترقد رعونة الطفولة، سلسلته الفضية التي طالما عبثت بشعر صدره، مُلقاة هي الأخري في أحد الأرفف المهجورة، وتلك أيام الفحولة والشباب، طاف المكان ملتصقًا بجدرانه، يبحث عن رائحة ما، ربما رائحة الرطوبة، هي الأخري لها ذكريات عصيّة علي النسيان.. اغتراب داخلي أصاب كبره، لم يرد في ذكرياته وألبومه الذاتي، جمع ما استطاع ولاذ فارًّا من محبسه القديم، الي أين؟ إلي حيث تئن أقدامه، والأفكار تتعارك برأسه والغربة تفرض نفسها، ماذا أصابه؟، يسأل نفسه، والإجابة غائمة. أي غربة تلك التي حلّت بداخله، وكيف يمكن وهو محصن بكل هذه الذكريات الجميلة!! طاف سارحًا في ملكوت بعيد أو هكذا تصوّر، ومعه عقارب ساعته، تسأل في كل محطة عن موعد التوقف، أعلنت إجهادها، نبضه أسرع من دقات عقرب الثواني، كاد لهاث حذائه يُسمع الجميع، أخيرًا توقف ليجد نفسه أمام بابه ذا المزلاج الحديدي أسير المجري العتيد، عاد مرة أخري لخلوته، الاغتراب في حضن الذكريات أهون.