ضمن عملية الصراع السياسي الدائر في مصر الآن يجري اطلاق بعض الأفكار والمصطلحات، والترويج لها حتي يظن الناس أنها من المسلمات، وهي ليست كذلك. روّج لها البعض عن قصد، وقبل بها آخرون عن حسن نية، وبذلك اكتسبت قدرًا من القبول العام، وهو في الحقيقة نوع من الخداع العام. ومن ذلك، قول المعترضين علي الدستور الجديد إن اللجنة التأسيسية لم تضم ممثلين لكل فئات الشعب، وإن الدستور لم يتم التوافق عليه. . في كل المجتمعات تتعدد العقائد والأيديولوجيات والأفكار، من أقصي اليمين لأقصي اليسار، حتي يصعب حصرها. لكن هناك دائمًا عقائد وأفكار "سائدة" يعتنقها قطاع كبير من الشعب، وعقائد "متنحية"، أو شاذة، ليس لها وزن نسبي كبير، وبينهما درجات متفاوتة. فكيف إذًا يتم تمثيل هذه العقائد والأفكار عند وضع الدستور؟ ومن الذي يقرر حجم وجودها في المجتمع؟ تشير الورقة التي أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القار بمجلس الوزراء بعنوان " صياغة الدستور .. قراءة تاريخية وخبرات دولية" إلي أن وضع الدساتير الديمقراطية يتم بطريقتين؛ فإما أن تضعه جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، كما حدث في دساتير الولاياتالمتحدةالأمريكية والدستور الفرنسي عام 1948? وفي هذه الحالة لا يعرض الدستور علي الاستفتاء الشعبي، أو أن تقوم لجنة بوضع الدستور ثم يُعرض علي الشعب للاستفتاء عليه. وقد جمع الدستور المصري الذي يجري الاستفتاء عليه السبت المقبل بين الأمرين بل زاد علي ذلك. فاللجنة التأسيسية التي تولت وضعه لجنة منتخبة عن طريق مجلس الشعب المنتخب، وقد استطلعت آراء قطاع كبير من الشعب، وبعد أن انتهت من صياغة مسودة الدستور دار حولها نقاش مجتمعي وحوارات وتلقت اللجنة الألوف من الاقتراحات ثم عادت اللجنة فعدلت في المسودة، وقدمت مشروع الدستور للرئيس تمهيدًا للاستفتاء عليه. وبهذه الطريقة يكون قد تحقق أفضل تمثيل للشعب في مجمله، حتي وإن لم يتم تمثيل بعض العقائد والأفكار والتيارات الشاذة أو المتنحية. وحين طالب أصحاب الصوت العالي بتمثيل كل فئات الشعب في الجمعية التأسيسية، استجابت القوي الإسلامية صاحبة الأغلبية في البرلمان، فدخلت النقابات المهنية والعمالية، والقضاة وأساتذة الجامعة، والجيش والشرطة، والأزهر والكنيسة، والمرأة والشباب (كان ناقص الأطفال)، فلما تحقق لهم ما أرادوا عادوا ليقولوا إن هؤلاء ليسوا متخصصين في وضع الدساتير!، ويبدو أنهم حين طلبوا ما طلبوا قدروا أنهم رابحون في الحالين، فإن رفض طلبهم اعترضوا بأن لجنة وضع الدستور لا تمثل كل فئات الشعب، وإن قبل طلبهم قالوا إن هؤلاء ليسوا مختصين بوضع الدستور. ومن الخدع الرائجة القول بأن الدستور يجب أن يوضع بالتوافق، وقرنوا بين التوافق والإجماع. كيف يمكن أن يتحقق الإجماع بين أعضاء الجمعية التأسيسية علي أكثر من 200 مادة دستورية مع اختلاف انتماءاتهم، فالاختلاف صفة بشرية، بل صفة لكل موجود، حتي الحجر والشجر. وقد رأينا كيف أن شرط الإجماع كان سببًا في إصابة الجامعة العربية بالشلل، إذ يكفي أن يعترض شخص واحد أو جهة واحدة لسبب وجيه أو غير وجيه فيتعطل كل شيئ. ومع ذلك فقد توصلت الجمعية التأسيسية قبل انسحاب من انسحبوا منها إلي التوافق علي معظم مواد الدستور عدا مواد قليلة كان النقاش حولها لا يزال مستمرًا، لكن المنسحبين تعللوا بأمور أخري ليتركوا اللجنة، لأن إفشال عمل اللجنة وتعطيل بناء مؤسسات الدولة هو الهدف. كما أن اللجنة التأسيسية أقرت مواد الدستور، مادة مادة، بأغلبية كبيرة وصلت إلي الإجماع في بعض المواد. لكن حين جري التصويت بالإجماع علي بعض المواد كان مثار سخرية البعض! والمثير أنه مع اقتراب ساعة الصفر، وفشل أساليب الخداع في تحقيق الهدف منها، كشف البعض الأقنعة عن وجهه، ووجدنا من يقول إن قبول الدساتير يكون من النخبة لأنها هي المرجعية ولأن الدساتير علم وتخصص، ولا اعتداد برأي الكتلة التي تملك الأصوات، ومن يقول إن الناخب يستطيع في أحسن الأحوال قراءة الدستور لكن القليل من يستطيع فهمه، ووجدنا من ينادي باستبعاد الأميين من التصويت، وهي أقاويل تضرب أسس العملية الديمقراطية باعتبارها تستهدف توسيع نطاق المشاركة الشعبية دون تمييز بين الناس، ورب أميٍّ أوعي من مثقف يزعم أنه من النخبة.