»ظلت الثورة في ليبيا غامضة بأحداثها، بشخصياتها المؤثرة، بالظروف الخاصة لذلك البلد الذي يهمنا كثيراً وبالتحديد الآن الي أن قرأت هذا الكتاب.. يمكن القول إنني شاهد بشكل ما علي تجربة الصديق عبدالرحمن شلقم، الشاعر، الصحفي، الدبلوماسي القدير، منذ عام بدأت أتردد علي نيويورك لزيارة ابني الذي بدأ عمله هناك، كنت أزور عدد من الأصدقاء القدامي، أو ألبي دعواتهم عندما يعلمون بوجودي، يقع مقر السفارة الليبية في الشارع رقم 84، علي مقربة من مبني الأممالمتحدة، عمارة مكونة من خمسة وعشرين طابقاً تعرف ببيت ليبيا، وهذا ارتفاع يمكن ان يكون شاهقا في أي مدينة أخري عدا نيويورك التي تتنافس ناطحات السحاب في ارتفاعاتها، خاصة في مانهاتن، يقع مكتب السفير الليبي في هذا المبني وبيته ايضا، بعد عشر سنوات قضاها كوزير خارجية جاء الي هنا سفيراً، كان من اعمدة النظام، من الدائرة الضيقة الموثوق بها، عبدالرحمن شلقم انسان رقيق جداً تلقي تعليمه في مصر وتدرب في دور الصحف الكبري ومنها أخبار اليوم، وترجع معرفتي به إلي هذه الفترة، تمضي سنوات لا نلتقي، لكن عندما نجتمع نستأنف الحديث كأننا لم نفترق، ونخوض في أدق الشئون، هذه العلاقات الحميمة المتباعدة حميمة في مساري وعديدة، لكن ليس إلي الحد الذي كنت أصغي فيه إلي انتقادات عبدالرحمن شلقم لنظام الأخ العقيد، كان أقل ما يصفه به »المختل« صحيح أن الوصف كان متطابقا مع سلوك القذافي لكن عندما نسمعه من أحد المقربين يكتسب معني آخر، أعرف أن معظم مكاتب الدبلوماسيين الكبار لا تخلو من أجهزة تنصت، كنت أخشي عليه، ما أنا الا زائر عابر، كنت أصغي واتساءل أحيانا، كيف يتحمل الناس ما اسمعه، ولماذا يستمر شلقم في خدمة النظام اذا كان بهذا السوء؟، أعرف تعقيدات الحياة وغرابة الظروف، لكن حانت اللحظة التي انفجر فيها ما ظل يتراكم داخل عبدالرحمن في مشهد مؤثر، مهيب، بكي فيه الجميع، من حضره مباشرة في مجلس الأمن، ومن رآه علي البعد مثلي، كنت أتابعه علي الهواء مباشرة في القاهرة ولم يغمض لي جفن تلك الليلة الا بعد اتصالي به، كان خطابه الذي أعلن فيه موقفه المؤيد للثورة قطعة رفيعة من الأدب الانساني، كان موقفا فريدا في تاريخ المنظمة العالمية وفي مسار الثورة الليبية التي حيرتني منذ انفجارها في السابع عشر من فبراير، أي بعد تنحي مبارك بخمسة أيام، زرت ليبيا قبل الثورة بشهور، الزيارة الوحيدة التي قمت بها وكانت لحضور اسبوع ثقافي، بين انشطته منح الصديق الدكتور جابر عصفور الجائزة، لفت نظري رثاثة البلد التي تتناقض مع ثرائه، المدينة القديمة من أجمل المدن علي البحر المتوسط، موجودة بكافة معالمها، غير أنها مهملة، دروبها قذرة، لم يجر فيها أي ترميم أو عناية، في السوق كانت أحوال الناس تنبيء انهم يعيشون ظروف كدح، الفنادق الفخمة التي اقيمت بها الحفلات كلها مشاريع استثمار تركية اقيمت في السنوات الأخيرة، كانت بدايات الثورة غامضة رغم أنني كنت علي اتصال بأصدقاء مقربين من الادباء والمثقفين، في مقدمتهم عبدالرحمن الذي لعب دوراً رئيسيا في انتصار الثورة، ومن خلاله كنت أعرف التناقضات التي اعقبتها وما تزال، أصدر خلال هذا العام كتابين، الأول ضخم »رجال حول القذافي« ترجم فيه لأكثر من خمسين شخصية كانوا من أعمدة القذافي والأقرب اليه، لدي عبدالرحمن قدرة علي رسم ملامح البشر وتجسيد خصوصياتهم، لذلك جاء الكتاب أقرب إلي فن البورتريه الأدبي ولعله تأثر برواية »المرايا« لنجيب محفوظ، غير أنه لم يكن في حاجة إلي الخيال الذي أضفاه محفوظ علي واقع شخصياته بحيث موه علي بعضها وابدل الاسماء، لم يكن عبدالرحمن في حاجة إلي ذلك، جميع الشخصيات معروفة، وقائعها غريبة، نموذج لما يمكن أن يفعله الحكم الدكتاتوري بالبشر، خاصة اولئك الذين ينسحقون طواعية، باختيارهم، يتوحدون بالطاغية حتي إن ملامحهم تتحول تدريجيا اليه، الطريف ان عبدالرحمن شلقم لم يستثن نفسه، بدأ البورتريه الخاص به بعبارة عن العامية المصرية »وانت يافالح؟«. الكتاب ثري، ولكن ظلت الحاجة ماسة الي كتاب عن الثورة، خاصة من أحد الذين لعبوا أهم الادوار فيها علي كافة المستويات، خاصة الدولي. نهاية القذافي أخيراً صدر الكتاب »نهاية القذافي« عن دار الفرجاني، يقع في اكثر من سبعمائة صفحة، تسلمت النسخة المهداة اليّ الاسبوع الماضي، ورغم صخامته قرأته في أيام قليلة لفرادته، ولما يحوي، تأملت الغلاف، صورة فوتغرافية، لمواسير الصرف التي كان مختبئاً فيها القذافي مع ستين من رجاله، أحد الثوار يحمل مدفعاً وينحني ناظراً داخل الماسورة، نهاية لم يكن يتنبأ بها أي خيال جامح، وأثق ان أقرب الذين عملوا معه لم يتصوروا لحظة تلك النهاية، لقد جري تنكيل بالقذافي بعد أسره، في نفس الليلة أصدر عبدالرحمن شلقم بيانا ينتقد فيه التمثيل به والاعتداء عليه قبل قتله، قال إن من شيم الثوار الامتثال بالسلوك النبيل، أما الإمعان في الانتقام فليس من خصال الثوار، يبدأ بنص كلمته التي القاها في الخامس والعشرين من فبراير العام الماضي امام مجلس الامن، كانت لحظة درامية في حياته، وفي مسار المجلس العالمي، لم يبك بمفرده، بل ذرف الجميع الدموع حتي بان كي مون الامين العام للأمم المتحدة، ارتجلها والقاها بعربية فصيحة، كان الشاعر يتقدم الدبلوماسي، جاء فيها: »ما يجري في ليبيا شيء خطير جداً، في يوم 21 فبراير، خرجت مجموعة من الناس المدنيين المسالمين يطالبون بالافراج عن محام اسمه »تربل« يتابع قضية الفي سجين قتلوا 6991 في سجن ابوسليم، المتظاهرون خرجوا، ولكن بدأ اطلاق النار علي صدورهم ورؤوسهم في بنغازي، وكأن هؤلاء الجنود لا يعلمون أن جسم البشر فيه جذع وأفخاذ وأطراف، اجزاء أخري من الجسم يمكن أن تضرب، وان هناك وسائل أخري كالماء والقنابل المسيلة للدموع..« إلي الخاتمة »عندما كنت عضواً في مجلس الأمن امثل بلادي كنت أرفع صوتي علي ما شهدته غزة من قتل، معمر القذافي يقول هؤلاء اتباع بن لادن، اسألك يا أخي معمر: هل الطفل الذي عمره ستة أشهر كان من اتباع بن لادن؟ يا اخواني هل الطفل الذي عمره ستة أشهر من اتباع بن لادن؟ لقد انشئت ليبيا بقرار من الأم المتحدة، ايتها الأممالمتحدة، ارجوكم أن تنقذوا ليبيا، لا للدم، لا للقتل، نريد منكم قرارا سريعاً وحاسماً.. المصائر يعود عبدالرحمن الي بدايات الثورة الليبية عام 9691، أو بالتحديد إلي الانقلاب العسكري الذي قاده القذافي، إلي مساره قبل ذلك ونشأته في سرت والرحلة الطويلة التي بدأها ثائرا وانتهي خلالها إلي قاتل لشعبه، يضم الكتاب عدداً هائلاً من الوثائق، محاضر اجتماعات، تفريغا لمحادثات تليفونية كاملة، تقارير امنية من المرحلة الأخيرة للنظام خاصة مع بدء الثورة، شهادات حية قام المؤلف باعدادها، منها شهادة مثيرة من العميد فرج البرعي مدير أمن البيضاء، أحد مناطق الجبل الأخضر، يقول في بدايتها: »احداث 51 فبراير: لم يكن هناك أي شيء يذكر، باستثناء الحديث عن دعوة للتظاهر في الفيس بوك »تماما مثل دعوة الشباب في مصر للتظاهر يوم 52 يناير« والحديث عن بعض اشتباكات في بني غازي بين المتظاهرين والشرطة ولا تتعدي 051 فرداً، وكان الجميع يأملون الا تنجح هذه الدعوة وخاصة أن المطالبة كانت تقتصر علي تحسين الاوضاع ومشكلة البطالة والسكن، وحل مشكلة المحامين الذين اعتصموا أمام محكمة بنغازي لحل مشكلة نقابتهم. »احداث 61 فبراير« »في الفترة الصباحية، كانت الحياة عادية جداً، وكان الجميع يترقب ما يحدث في 71 فبراير، وكثرت الشائعات عن مبالغ سيتم توزيعها علي الشباب..« انها نفس البداية التي لا تنبيء بهول الاحداث التالية، تتفجر عوامل شتي طال اختزانها وتفاعلها، تختلف المسارات، الثورة في ليبيا تحولت الي ما يقارب حربا اهلية ضروسا، انتهت بانهيار النظام والدولة، ما بين الفترة الصباحية التي تبدو فيها الحياة عادية جداً في بني غازي، وما بين خطاب عبدالرحمن شلقم المؤثر اسبوع واحد. النهايات يحفل الكتاب بتفاصيل فنية دقيقة للمعارك الدبلوماسية التي جرت في مجلس الأمن والأممالمتحدة لاتخاذ قرارات حاسمة ضد نظام القذافي الذي بدأ حملة ابادة ضد الشعب الليبي، اما بالنسبة لشلقم فقد قرر القذافي اغتياله وجرت محاولة بالفعل في روما، وتم ضبط افراد اوكرانيين جاءوا خصيصا الي الولاياتالمتحدة، عندما زرت ليبيا، مررت بمنازل مرتفعة عن مستوي الارض، مطلة علي الأرض، اشار مرافقي الاديب والاكاديمي احمد زايد الي احدها قائلا انه منزل عبدالرحمن شلقم، حدثني كثيراً عنه اثناء لقاءاتنا في نيويورك، عن مكتبته النادرة التي تضم خمسة وعشرين الف مجلد، عن اعتزازه بوجود عود رياض السنباطي في البيت، عبدالرحمن عازف ماهر، لقد تم استباحة البيت ونهب المكتبة، وظهرت في التليفزيون سيدة عجوز قالت إنها أم عبدالرحمن وانها تتبرأ منه الي الابد، يقول في الكتاب ان امه ماتت منذ سنوات طويلة، كان ذلك مجرد جزء من حملة مجنونة بدأت ضده، وكان أهم أهدافها تصفيته هو شخصيا، وتصفية ابنه محمد الذي بقي في ليبيا وأختفي في الجنوب حيث القبيلة التي تنتمي اليها الاسرة، لعبدالرحمن ثلاثة ابناء، اثنان يعملان خارج ليبيا، ومحمد الذي بقي داخلها، كنت استفسر عن احواله، وكان الأب يجيبني باقتضاب، يؤكد لي انه علي اتصال به عن طريق شخص ثالث، وأنه بخير، لعل الجزء الاخير من الكتاب اكثر اثارة، فهو يكشف المواقف العربية بصراحة لم نعتدها، أما القسم المخصص للشهادات »ثماني عشرة لشخصيات مختلفة« فيلقي أضواء مختلفة علي الكثير من المواقف والمساحات الغامضة من ثورة ليبيا التي سال فيها الكثير من دماء الشهداء، يتساءل عبدالرحمن شلقم في نهاية يومياته »ماذا فعلنا بليبيا التي استردها الشهداء بأرواحهم والجرحي بدمهم وبأطرافهم..« اقول لصديقي العزيز ان الاجابة تحتاج إلي سؤال آخر، اكثر صراحة.