الغيبوبة التي سقطت فيها عملية السلام حالياً نتيجة التعنت الإسرائيلي، ورفض نتنياهو مد تجميد المستوطنات، وما تبعه من توقف للمفاوضات، يمكن أن تتحول إلي حالة موت سريري كامل، إذا ما تركت إسرائيل دون محاولة جادة من الراعي الأمريكي، وأوروبا، والمجتمع الدولي كله، للضغط عليها وإجبارها علي وقف الطعنات التي توجهها كل يوم لمسيرة السلام. وفي القمة العربية التي عقدت في سرت الليبية، السبت الماضي، شرح الرئيس الفلسطيني الحالة المرضية للسلام، والمخاطر المحيطة به،...، وبعد ذلك كان مطلوباً من الزعماء العرب اتخاذ قرار في هذه القضية. وبالطبع كانت عيون وآذان أطراف ودول كثيرة في المنطقة والعالم متطلعة إلي سرت ترقبا للقرار الذي سيتم اتخاذه في القمة وكان في مقدمة المترقبين والمتابعين عيون وآذان الولاياتالمتحدة واسرائيل واللجنة الرباعية الدولية وأيضا المجموعة الأوروبية، وقبل هؤلاء ومن بعدهم العيون والآذان العربية والفلسطينية. وكانت التوقعات من جميع المراقبين، تكاد تنحصر في خيارين لا ثالث لهما،...، الأول هو أن يكون القرار برفض قاطع لعودة الوفد الفلسطيني إلي مائدة المفاوضات، وطي هذه الصفحة تماما كرد حاد ومباشر علي رفض إسرائيل تمديد وقف المستوطنات،...، ولعلي لا أذيع سرا إذا ما قلت، أنه كان، ولايزال، علي الساحة العربية والإقليمية من كان يحبذ هذا الخيار، بل ويدفع في سبيله بكل الوسائل الممكنة. والثاني هو أن يكون القرار بالاستمرار في المفاوضات، والعودة للجلوس علي مائدة التفاوض بغض النظر عن الموقف الإسرائيلي الرافض لوقف المستوطنات، وبغض النظر أيضا عن كون ذلك يمثل في حقيقته وجوهره انصياعا فلسطينيا وعربيا للضغط الإسرائيلي، وقبولا مهينا للأمر الواقع السيئ الذي تريد اسرائيل فرضه علي العرب والفلسطينيين. ولعلي لا أتي بجديد إذا ما قلت أن ذلك الخيار لم يحظ بقبول احد سواء من الفلسطينيين او العرب، بل ولم يكن مطروحا أو واردا علي الاطلاق، في ضوء الرفض الرسمي والشعبي الفلسطيني والعربي للتعنت الإسرائيلي، والاقتناع الكامل بأن استمرار التوسع في المستوطنات يمثل خطرا داهما علي السلام لايمكن التغاضي عنه أو القبول به. كانت تلك هي توقعات المراقبين والمتابعين للقمة وأعمالها ومجرياتها في ضوء ما اعتاد عليه العالم من أن السلوك العربي عادة ما يكون خاضعا للإنفعال، وغالبا ما يكون إما أبيض أو أسود ولا فرصة كبيرة للوسطية في ذلك، ومن هنا كان التوقع أن يكون القرار الصادر عن القمة إما بإعلان رفض العودة للتفاوض، أو الخضوع للعودة،...، ولم يكن متوقعا غير ذلك، ولكن ذلك لم يحدث.
وبالفعل لم يحدث،....، ولكن الذي حدث هو الاتفاق علي إعطاء مهلة شهر للطرف الأمريكي كي يبذل المزيد من الجهد لإقناع الطرف الإسرائيلي بالقبول بوقف الاستيطان، وذلك باعتبار الشريك الأمريكي هو الراعي الرئيسي للسلام، والوسيط الوحيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين وصاحب المبادرة الخاصة بالمفاوضات المباشرة والتي استجاب لها الرئيس الفلسطيني، واستجابت لها لجنة المتابعة العربية، والعرب بصفة عامة. وهنا لابد ان نشير إلي حكمة قرار مهلة الشهر،....، ولا يخفي علي أحد ان إسرائيل كانت تتمني لو ان العرب تبنوا احد الخيارين المتوقعين باعتبار ان أيا منهما يصب في صالحها، ويدعم موقفها، حيث ان الرفض العربي القاطع للعودة للمفاوضات المباشرة يتيح لإسرائيل التزرع بأنها ليست الطرف الذي تسبب في فشل المفاوضات ولكن الفلسطينيين هم السبب،....، وهذا رغم ان العالم كله يري عكس ذلك، ولكنه التبجح الإسرائيلي المعتاد، في غيبة العدالة الدولية وفي غيبة الحساب الدولي، واختلال الموازين، والكيل بأكثر من مكيال. وكل سوابق إسرائيل تؤكد هذا السلوك، وتجعله هو التصرف الأكثر تطابقا مع ردود أفعالها المتوقعة، بل لعلها اتخذت موقفها المتعنت ورفضت تمديد وقف أو تجميد المستوطنات وهي تضع في اعتبارها ان الموقف الفلسطيني والعربي سيكون بالقطع رفض العودة للمفاوضات، وبهذا تستطيع التحلل من المطالبات الأمريكية والدولية لها بالسير في طريق السلام، وصولا إلي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما ترفضه وتتمني عدم حدوثه،....، ومن الواضح ان الفلسطينيين والعرب قد فوتوا عليها هذه الفرصة. وإذا كان الخيار الاول يصب في نهاية الأمر في صالح إسرائيل فإن الخيار الثاني، وهو القبول الفلسطيني والعربي بالعودة المنكسة والصاغرة إلي مائدة المفاوضات المباشرة في ظل الرفض الإسرائيلي لوقف الاستيطان يصب في شكله ومضمونه في صالح إسرائيل منذ بداية الامر، وليس في نهاية الامر، حيث انه يعني ببساطة انتهاء وتآكل الارض الفلسطينية أو ما بقي منها وبالتالي لن تكون هناك أرض تقام عليها الدولة الفلسطينية، وهو ما يعني ان السلام يصبح في حقيقته وواقعه مجرد سراب غير قابل للتحقيق،....، وفي هذه الحالة تصبح المفاوضات ذاتها بلا جدوي، ولا عائد ولا ضرورة.
من هنا تأتي حكمة ما تم إقراره من الجانب العربي، بإعطاء مهلة لمدة شهر للجانب الأمريكي، لعله يستطيع إقناع نتنياهو وحكومته طوعا أو ضغطا، أو بأي طريقة أخري، بوقف المستوطنات وإعلان تمديد تجميدها، وهو ما يفتح الباب مرة أخري أمام الفلسطينيين للعودة إلي مائدة التفاوض المباشر، وهو ما يمكن ان يفتح نافذة أمل في امكانية التوصل إلي اتفاق أو تسوية، شاملة علي اساس مبدأ قيام الدولتين، وهو ما يعني قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة علي الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 7691،....، وإن كان ذلك قد أضحي صعب المنال في ظل الصلف الاسرائيلي، والتعنت الواضح من جانب حكومة المتطرفين هناك برئاسة نتنياهو. ودلائل الصلف والتعنت الإسرائيلي، ومحاولة تهربها من متطلبات السلام، واستحقاقاته، أصبحت واضحة تمام الوضوح للعالم كله الآن، ابتداء من رفض نتنياهو وحكومته المتطرفة بحق الشعب الفلسطيني المشروع في التحرر، وإقامة دولته المستقلة وذات السيادة علي ارضه المحتلة عام 7691، وانتهاء برفضها وقف بناء المستوطنات، والادعاء بأن المطالبة بوقفها تعتبر شرطا، يتعارض مع ضرورة ان تكون المفاوضات دون شروط مسبقة، ضاربا في ذلك بما اتفق عليه المجتمع الدولي بكل دوله وشعوبه بأن هذه المستوطنات غير شرعية، وانها مخالفة واضحة، وكسر مؤكد لكل القوانين الدولية، وجميع قرارات الاممالمتحدة، ومجلس الأمن. بل الأكثر من ذلك، ان الصلف والتعنت الإسرائيلي لم يتوقف عند ذلك الحد، بل تعداه بخطوات أخري جسيمة حيث اعلنت حكومة التطرف الإسرائيلي منذ أيام، انها يمكن ان تنظر في وقف مؤقت للعمليات الاستيطانية شريطة ان تعلن السلطة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الإعتراف الصريح والواضح بإسرائيل دولة يهودية ديمقراطية،...، وهو الشرط الذي اعلنت السلطة الفلسطينية رفضه جملة وتفصيلا. وهكذا نري حكومة إسرائيل في تهربها من استحقاقات السلام، تفاجئ العالم كل يوم بشرط جديد، وتطلب من الفلسطينيين الخضوع له، وتنفيذه رغم إدراكها بإستحالة قبول السلطة والحكومة والشعب الفلسطيني بكل فئاته، وجميع أطيافه لهذا الشرط،....، بل وتعرف في ذات الوقت أن شروطها تلك هي في حقيقتها وجوهرها نسف لعملية السلام من أساسها، وتتعارض كلية مع ما يجب أن يتوافر لدي الاطراف المتفاوضة من رغبة في تحقيق السلام، والوصول إلي اتفاق تسوية شاملة وعادلة ودائمة.
واستطيع القول، قياسا علي السوابق التي ارتكبها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو خلال فترة رئاسته للوزراء قبل ذلك، وقياسا ايضا علي ما فعله ويفعله خلال رئاسته الآن للحكومة الإسرائيلية. ان قصة أو شرط اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل دولة يهودية ديمقراطية حتي يمكنه النظر في وقف أو تجميد الاستيطان لمدة شهر أو شهرين قد لا تكون الحيلة الأخيرة له لوقف وتعويق مسيرة السلام، ومحاولة نسفها، ثم الإدعاء بعد ذلك بأن الفلسطينيين هم الذين افشلوا عملية السلام، برفضهم للتفاوض، وعدم استجابتهم لمطالبه وشروطه، التي يراها ضرورية لحماية أمن وسلامة دولة إسرائيل، ويراها العالم كله، وليس الفلسطينيون فقط، شروطا تعجيزية لا يمكن القبول بها. ولن نبتعد عن الواقع كثيرا إذا ما توقعنا منه حيلا وألاعيب أخري، أكثر تعنتا وغطرسة، ولا يهدف من ورائها غير التهرب من استحقاقات السلام، وتبرير هذا التهرب وإلقاء تبعته علي الفلسطينيين والعرب، اذا ما رفضوا الاستجابة لشروطه التي يعرف انها غير قابلة للتنفيذ، بل وغير مقبولة علي الاطلاق. وأحسب انه بات واضحا الآن بالنسبة لنا ولغيرنا من المهتمين بالقضية الفلسطينية، والمتابعين لسير عملية السلام، والعارفين، أو المدركين لمنهج وسلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي، قياسا علي أفعاله ومواقفه السابقة، اننا أمام حالة من حالات »البرجماتية« السياسية الهادفة لتحقيق اكبر قدر من المنفعة أو الاستفادة، وهذا ليس غريبا في السياسة،...، ولكن الحقيقة تؤكد أن ما نشاهده الآن هو في جوهره ومضمونه، نوع من الابتزاز السياسي، يمارسه نتنياهو وحكومته علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإدارة الرئيس أوباما، للحصول علي أقصي ما يمكنهم الحصول عليه من مكاسب، في سبيل انقاذ ماء وجه أوباما وإدارته، والقبول الظاهري لبعض مطالب الولاياتالمتحدةالأمريكية، بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط، حتي ولو اقتصر ذلك علي الاعلان عن تمديد تجميد المستوطنات لفترة لا تزيد عن شهرين أو ثلاثة علي أكثر تقدير. وإذا ما اراد أحد ان يعرف حجم الابتزاز أو الفائدة التي يسعي نتنياهو للحصول عليها، فمن الضروري ان يرجع الي ما اعلنته الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ أيام، عن صفقة سلاح ضخمة لإسرائيل تضم أحدث الطائرات الأمريكية القاذفة المقاتلة، وغير المنظورة علي شاشات الرادارات »الشبح«،...، وعليه ان يعود إلي ما نشر وأذيع حول هذه الصفقة في الصحف وأجهزة الاعلام الأمريكية، وتأكيدها انها جاءت في إطار محاولة إدارة أوباما لتشجيع نتنياهو علي اتخاذ قرار بمد تجميد المستوطنات لمدة شهرين أو ثلاثة فقط حتي تستمر عملية المفاوضات المباشرة إلي ما بعد نوفمبر القادم، موعد الانتخابات الأمريكية في التجديد النصفي للكونجرس، وحتي لا تظهر الإدارة الامريكية أمام الناخب الأمريكي، في صورة العاجز عن تحقيق أي شيء إيجابي في سياستها الخارجية، حتي في الشرق الأوسط، وحتي لا يسوء موقفها أكثر مما هو سيئ الآن في نظر هؤلاء الناخبين.
وبمتابعة ما يجري علي الساحة الأمريكية والساحة الإسرائيلية من تطورات متسارعة ومتتابعة، نشاهد رغبة امريكية واضحة في إحراز نوع من التقدم علي مسار عملية السلام، لا يزيد عن النجاح في عودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لمائدة المفاوضات المباشرة، حتي ولو كان ذلك دون أمل في التزام إسرائيلي بالوصول بهذه المفاوضات إلي بر الآمان، وشاطيء النجاح،...، المهم هو ان يجلس الطرفان علي مائدة التفاوض، انقاذا لماء وجه أمريكا، والرئيس الأمريكي الذي دعا لهذه المفاوضات وتعهد برعايتها. ونشاهد أيضا تمنعا اسرائيليا، يصل إلي درجة الصلف والعجرفة، من خلال الاعلان عن رفض تمديد تجميد المستوطنات، رغم المناشدات المتتالية من جميع المسئولين الأمريكيين، ابتداء من الرئيس أوباما، وانتهاء بمبعوث السلام ميتشيل، مرورا علي نائب الرئيس، ووزيرة الخارجية،...، ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل زادت عليه بالتصويت في الكنيست علي قرار إسرائيل دولة يهودية، ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف الواضح بذلك كشرط للنظر في وقف أو تجميد المستوطنات لفترة مؤقتة. ونشاهد بالتأكيد أن ذلك يحدث في الوقت الذي تتردد في كل من واشنطن وتل أبيب أنباء عن عروض ومقترحات أمريكية لتحفيز إسرائيل ودفعها للتخفيف من حدة موقفها المعوق والرافض لاستئناف عملية السلام.
والسؤال الآن هل تستجيب إسرائيل للحوافز والعروض الأمريكية، أم انها لن تفعل،.... خاصة بعد أن وضعت العربة أمام الحصان بشرطها موافقة الفلسطينيين علي الإعتراف بها دولة يهودية ديمقراطية؟! أعتقد أن الاجابة لن تتأخر كثيرا.