م. مصطفى الغزاوى انتماء مصر العربي والإسلامي والإفريقي ليس مجرد لغو قول، فهي الدوائر الحيوية لعلاقاتها، ولكن ماهية مصر التي نعنيها؟، وهل هذا الانتماء مجرد مشاركة وجدانية، أم انه مصالح تتلاقي؟!، فالعلاقات الدولية ليست عواطف، ولكنها مصالح، تتوافق أو تتعارض، فتتحدد طبيعة الانتماء وطبيعة منهج التعامل مع تلك الدوائر. وبمعني آخر هل هو انتماء وفق رؤية لمصر تنحاز إليها في عالم متغير، ام هو مجرد شعار أجوف قد تنجرف به مصر لغير مصالحها ومصالح شعبها ومستقبله؟. ضجيج بورصة الأقوال والشعارات في مصر بعد الثورة، أودي بطاقة الثورة حتي اللحظة بعيدا عن أهدافها، وخارج المسار الحقيقي والموضوعي لها، واستبدل الصراع من مواجهة نظام فاسد ومستبد لا يملك رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية لصالح الشعب وفئاته التي تعاني الفقر والجوع والمرض بل والجهل المستهدف بتفريغ منظومة التعليم في مصر من محتواها، إلي صراع مصطنع خارج عن حاجة المجتمع حول سلطة الحكم. استطابت القوي السياسية فكرة الاستنساخ، وتتحدث عن التجربة التركية والاندونيسية والبرازيلية، واردوغان ومهاتير محمد ورولا دي سيلفا. وفي الوقت ذاته لا تتحدث عن الواقع المصري ومكوناته وهويته، بل تحاول استبدال الهوية وهدم الدولة وإقامة واقع لا يدرك التاريخ ولا يضع في اعتباره الجغرافيا وما تفرضه من مصالح، ومدي تعارض المصالح المصرية أو توافقها مع غيرنا في عالمنا المعاصر، بل إنها تستدعي الشرعية الأمريكية مبررا للوجود المصري، وكأن وجود مصر مرتبط بالرضا الاسرائيلي. انحراف بالسياسية بعيدا عن إدراك للخطر، وحصار للوطن وترتيب عاجز عن إدراك الأولويات الوطنية، فالثورة قالت إن الشعب أولا، ونادت بتحرير الإرادة وبالاستقلال الوطني، لأنه عند تحقق ذلك، وعنده فقط، نستطيع أن نحدد موقفا من أمريكا او السعودية او إثيوبيا، الأمر يتجاوز مدي طائرة الرئاسة إلي مدي المصالح ونطاق الأمن الذي نراه، ونطاق النفوذ الذي نريد، ومركز كل ذلك هو وطن وشعب، ورؤية للمستقبل، والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهو تجاوز للتصحر السياسي في المجتمع بدلا من استخدام الفقر سبيلا للسلطة. الاستنساخ في العلوم البيولوجية مر بمرحلتين، روائية بداية القرن 19 حول فرانكشتاين، والثانية نهاية القرن العشرين باستنساخ النعجة دوللي. فرانكشتاين صنع جسده من أجزاء آدمية ميتة، وعجزت الطاقة الكهربية المتاحة عندها عن إحيائه، ولكن صاعقة كهربية في ليلة مطيرة مرت بالجسد الميت، حركته وتحول فرانكشتاين الي وحش قاتل. والنعجة دوللي محاولة بعد قرنين من الزمان لاستخدام الطاقة أيضا وأشعة الليزر لتقسيم نواة حيوان منوي وإنتاج الشبيه او الاستنساخ بذات الصفات الوراثية. المصدر المشترك واحد وهو الطاقة الفائقة، ان مرت بجسد ميت أنتجت وحشا خارجا عن النواميس الطبيعية، وان مرت بنواة حيوان منوي أنتجت الشبيه. ولكن إدراك حبل الجينوم في الخلايا البشرية تفوق علي عملية الاستنساخ، فهو مخزن المواصفات البشرية وتكوينها، والفارق هو في حيود طاقة الجزيئات عن الطاقة الواجبة لتحقيق مواصفات الأداء والصحة، وجاءت كاميرا الليزر والفيمتو ثانية لتتيح للإنسان ان يصور الجزيئات ويحدد مدي ما أصابها من حيود، وكان التطور بعيدا عن الاستنساخ، هو الوصول الأولي لحقيقة حبل المواصفات البشرية "الجينوم". المجتمع الإنساني له علومه الخاصة التي لا تقبل الاستنساخ، ولكنها تقبل بدراسة حبل الجينوم الاجتماعي المكون للمجتمع ذاته، أين فقدت طاقة الوجود والتحقق؟ وأين تم حصارة وإهدارها؟ وأين يكمن فيها الفساد؟ وأين يجب ان تعمل الطاقة الفائقة، والتي هي في العلوم الإنسانية الثورة، فالثورة علم تغيير المجتمع. المجتمع الإنساني يفرض علي المفكرين المبدعين، وليس تنابلة النخبة الذين يستدعون تنابلة السلطان، الاستفادة من التجارب الإنسانية، وأيا كانت القوانين التي يحاول علماء الاجتماع تفسير حركة المجتمعات، لكن لكل مجتمع سماته الخاصة في تكوين قواه الاجتماعية والإنتاجية، وهويته الثقافية، وتاريخه، وصراع المصالح الخارجية التي تسعي للسيطرة علي إرادته. وهناك أيضا الصراع الداخلي، والصراع الداخلي في المجتمعات التي يحاولون استنساخها كان ضد الفساد والظلم الاجتماعي والتخلف، إلا أن محاولات الاستنساخ لا تري الوطنية المصرية أصل الصراع ولكنها تراها الأممية الإسلامية، وكأن الشعب المصري قام بإنتاج شبح جديد لفرانكشتاين، وكأن طاقة الثورة الشعبية يجري إهدارها تحت دعاوي لا تحمل المصلحة الوطنية بالأساس ولكنها تهرب الي جسد جري تجميعه من قطع ميتة. الخطر الحقيقي هو كسل الإبداع لدي المفكرين والمثقفين وما بقي من نخبة، ويضاعف الخطر اغتراب لغة الحديث عن المجتمع، واغتراب النخبة عن تاريخ هذا المجتمع وحاجاته وتجاربه وأمثلة القدوة فيه. امر السلطان عبد الحميد بإغراق تنابلة السلطان ليقضي علي التواكل والكسل، ولكن الكسل الذي أصاب إبداع النخبة في مصر يهددها بالغرق السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لن يقيم الحرية السياسية والعدل الاجتماعي في مصر غير أصحاب المصلحة الحقيقية في تحقيقهما. الخطر المحيط بمصر من خارجها، يتزايد. والخطر في الداخل يكمن في استدعاء شبح فرانكشتاين، ولا سبيل للعودة الي طريق الثورة ومنهجها بغير إدراك أنها لم تكن انقلابا علي نظام حكم، ولكنها تحرير للإرادة الوطنية لإعادة بناء المجتمع.