البقاء لله في الدولة المدنية، التي كانوا بها يتشدقون، البقاء لله في مصر الوسطية التي كانوا بها يفخرون، إخوتنا في الوطن يستعرضون عضلاتهم علي أنصار الدولة المدنية يأمرون بالذبح وينهون عن الصفح، يذبحون أبناءهم (الشاب السويسي نموذجًا)، وينهرون نساءهم، يسمعون فنانيهم ومبدعيهم ومفكريهم سوء الكلام، يتهمونهم في أعز ما يملكون إيمانهم، وما يعبدون. في الليالي القمرية عندما يتحول البشر إلي ذئاب ذات أنياب، تخرج قوافل صيد الأفكار تتلمظ للفريسة، مسلحة بخرطوش القنص، ورصاص التكفير، تبحث عن شاردة في الطرقات الخاوية، خلوة شاطئية، فكرة لوذعية، شطرة من بيت شعر في قصيدة تحررت من قيود القافية، نظمت في الهواء الطلق في شعر حر، قال بها شاعر أو مجنون في البراح، سطر من كلمات معدودات، مفعمات بالصبا والجمال، بالحيوية في رواية كاسرة للسقف الذي كانوا به يسقفون الإبداع وما يؤلفون، يطاردون فرشاة تركت علي اللوح الأبيض ضربات ساخنة ملونة، اللوحة حبلي بعشق صوفي رائق لذة للمتأملين. هجانة آخر الأيام من راكبي الموتوسيكلات، يجولون في أطراف المدينة يبحثون عن صليب ذهبي صغير في صدر صبية خرجت لتوها من تحت يد خراط البنات، خصلة شعر سوداء علي الخدود تهفهف وترجع تطير، فيطير عقل القناصين، يطاردون العري في أفكارهم المريضة، العارية من السماحة، لماذا هم مكفهرو الوجوه هكذا، صدورهم ضيقة حرجة، وكأن أرواحهم تتصعد في السماء. ونحن أسري عجز وقعود، ينهوننا (هم) عن منكر ظنوه فينا، ويأمروننا (هم) بمعروف يتعطفون به علينا، وكأننا لا نعي ولا نعقل ولا نفكر، حجروا علينا (نحن) الأصحاء عنوة، سلبونا القدرة علي الوعي والإدارك والتمييز، وكأننا صم بكم عمي لانفرق بين الحلال والحرام، وهم رسل خير وسلام ونور علي الدنيا وضياء، يرتدون ثيابا بيض، ويطلقون اللحي سوداء، سواكهم في أعين أعدائهم وما يضمرون له العداوة، يتميزون من الغيظ، لا يميزون، كلهم كفار إلي أن يثبت العكس أو العجز. هلا شققت عن قلبه، عن قلبك، عن قلبي، لماذا تشج رأسي، وتشق قلبي، وتنحر شرايين فؤادي، لماذا تكرهني، تكره نفسك، تكره آدميتك، تتخلي عن إنسانيتك، كل هذه الكراهية تضمرونها لنا ولأهلنا، لأهلكم، إنهم يؤسسون لجماعات ما أنزل الله بها من سلطان، جماعات تمشي علي الأرض ظلما وإذا خاطبهم الناس قالوا كفرا، سلام علي جماعات كانت تمشي في الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا. مالي أري الدولة المدنية تغيب في غيابات الجب، الدولة المدنية صارت قبض ريح، مهيضة الجناح، أقسموا ليصرمُنها مصبحين ولا يستثنون، بئس الفعل ما يفعلون، إنها مصر الحبيبة ولو كره الكافرون ودعوا عليها بالحريق بردا وسلاما مما يمترون. غارت مياه الاعتدال المصري بعيدا في آبار مسممة، آبار ارتوازية عميقة من الحقد والغل والكراهية، حفرها حفارون محترفون، مدربون علي اغتيال المدنية والتحضر، كالجراد يأكل الأخضر واليابس، يريدونها صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، إنهم يردون الماء صفوا وأن يكدر وردي (والحديث لمصر وعن مصر تتحدث الأمم). إنهم يحكمون فينا الكتاب، معاذ الله، لا نقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله، معاذ الله أن تكون مدنيتنا لا دينية، وليبراليتنا كافرة، وعلمانيتنا فسقًا والعياذ بالله، إنا نقول كما قال الأولون حسبنا الله - أي يكفينا ما يأفكون، اتهاماتهم وبال عليهم، حملتهم علي المؤمنين الذين إذا أصابتهم مصيبة (كتلك التي تسقط فيها مصر من حالق) قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. ليس لها من دون الله كاشفة، توشك الجماعات (علي اختلاف مسمياتها وتحزباتها وأحزابها) أن تداعي علينا كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها، ونحن (المؤمنين بالدولة المدنية وسدنتها ودعاتها) كثير، ولكن كثرتنا غثاء كغثاء السيل، نزع الله من صدور إخواننا في المصرية المهابة من أفكارنا، وإبداعنا، وفنوننا، وحضارتنا التي استقامت في العالمين، لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي، وقذف في قلوبنا الوهن، حب الشهرة وكراهية النضال في سبيل المبدأ.. مالي أري رءوسا تدلت في انكسار، وقلوبًا وهنت في وجل، وأقدامًا تسمرت في خشية، وأيدي أحجمت عن المغالبة أو حتي المشاركة، ينتحي البعض منا جانبا، مال رءوس نفر من المفكرين والكتاب والصحفيين والعاملين علي الدولة المدنية قد ثقلت عن إدراك هول الخطب، صارت منكسة، كسيرة هي قلوبهم، حزينة هي عيونهم، تحسبهم جميعًا وهم قلوب شتي، تفرقت بهم السبل عن طريق الدولة المدنية، لم يتبق منهم سوي ألسنة توالس، وتحابي، وتؤانس من يختانوننا في المضاجع الخليجية والأمريكية والأوروبية. بعضهم أطلق لحيته، وبعضهم يدرس الأمر، ونفر منهم نبتت له لحية داخل حلقه، يتحالف وهو يوالس، يكتب وهو يصلب علي القوائم تظلله سيوف متقاطعة تكاد تفصل رأسه الذي كان يفكر عن جسده الذي تيبس خشية مما ينتظر الرفاق، ويحج البعض إلي مكتب الإرشاد، ويستمع البعض منصتا لأحاديث حوينية ما أنزل الله بها من سلطان، ويتخارج القوم من المعركة يؤثرون السلامة، وفي العجلة الندامة، ولننتظر انبلاج فجر ليل غشي المدينة في غفلة من أهلها، وما الإصباح منه بأمثل. صرنا أسري خشيتنا وجزعنا، صرنا أسري هواجسنا وكوابيسنا، صرنا نرقب ونترقب دون فعل، دون حرف، دون رفض، دون صد، وزاد وغطي دون خجل من بيع الدولة المدنية في سوق نخاسة رديء، نحن البائعين وهم المشترون، لا بارك الله في البائع والشاري، وليس شرا من البائع إلا الشاري، ولا يبقي علي المداود سوي شر البشر.