وسط معمعة الواقع شديدة الصخب كثيفة الحيرة والقلق والصراعات الهادرة والمكتومة، التي يعيشها كل مواطن مصري حاليا، قررت أن أقطع تأملاتي في واقع الحال لألوذ معكم، ولو لدقائق، في واحة الفن الخالد . الذي يبقي بعد أن تنقشع كل الغيوم، وتنطفئ كل الحرائق، وتنتهي كل الحروب . مساء اليوم، من المقرر، أن يقيم المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة احتفالية بصدور كتاب جديد في أحد أفرع الفنون التشكيلية وهو فن الجرافيك . هو ربما يكون الفن الأكثر شعبية بين الفنون التشكيلية حيث نلقاه في كل مكان تقريبا، فهو فن مرتبط بالطباعة، أو يمكن القول أنه فن الرسم المطبوع . ولذلك طرق واتجاهات وتفاصيل فنية شتي . صدور كتاب جديد في الفنون التشكيلية في مصر أمر يستحق الاحتفال في حد ذاته أيا كان موضوع هذا الكتاب. فنشر كتب الفن عندنا نادر ويكاد يكون " بالقطارة " . والمكتبة العربية في الفنون التشكيلية هي أقل المكتبات وكل هذا معروف . عنوان الكتاب الذي نحن بصدده هو "برنارد رايس الأب المجهول للجرافيك المصري " . الصادر عن دار " هلا" بدعم من المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة، وسبب الدعم واضح لأن برنارد رايس فنان بريطاني . مؤلف الكتاب الفنان والناقد التشكيلي الدكتور ياسر منجي يستحق الاحتفال أيضا . فهو تقريبا الوحيد الذي برز من بين الشباب في نقد وتأريخ الفنون الجميلة في السنوات العشر الأخيرة . ولدينا مشكلة كبري بلا شك في ندرة النقاد أو مؤرخي الفن من بين الشباب في مصر . كنت أود أن يكون ياسر منجي من المتفرغين للنقد والتأريخ من غير الفنانين . فكل نقاد ومؤرخي الفن التشكيلي في مصر من الفنانين الممارسين باستثنائي تقريبا . وهي ظاهرة تنفرد بها شعوب الدول الأقل تقدما علي كل حال في هذا المجال . لكن ياسر منجي يؤكد ظاهرة ارتباط نقد وتأريخ الفنون عندنا بالفنانين بشكل عام وبخاصة الأكاديميون من الفنانين بشكل خاص . وهذا أمر لا يعيبه وإن كان يؤثر في مجاله . فياسر من هيئة تدريس كلية الفنون الجميلة بالقاهرة . وهو متخصص في فن الجرافيك الذي كتب فيه كتابه . حصل علي درجة الماجستير عام 2003 عن بحثه المعنون : " المعالجة الفنية لفكرة الموت في أعمال الحفر والطباعة " . وبعدها بثلاثة أعوام حصل علي درجة الدكتوراة عن رسالته المعنونة " المعالجة الجرافيكية لفكرة الشيطان ورموز قوي الشر الغيبية " . ومن السهل ملاحظة أن موضوعي الرسالتين يجريان في الاتجاه ذاته، وهو الاتجاه القاتم والغامض المخيف في الحياة . هكذا يكتب ياسر منجي تميزه في البحث الفني العلمي . وهو أيضا مما يستحق الإشادة . فلقد كنت عضوا في مجلس إدارة كلية الفنون الجميلة التي يعمل فيها ياسر لبضع سنوات بعد حصوله علي الدكتوراه، وكنت أضج من كثرة ما يعرض علينا من موضوعات ميتة بلا جديد للماجستير والدكتوراه . مثل أن يأتي طالب أو طالبة الآن ويسجل رسالة في مصر عن بيكاسو مثلا، هذا الفنان الذي كتبوا عن كل ذرة فيه وفي فنه مئات الكتب والدراسات والأبحاث عبر العالم . فماذا يضيف طالب بعد كل ذلك عن بيكاسو ؟ من نتائج تميز الدكتور ياسر منجي فوزه بجوائز في النقيضين المتكاملين : الإبداع والنقد . ففاز بجوائز في النقد من إمارة الشارقة وصالون الشباب بالقاهرة، وفاز بجوائز في الإبداع من صالون الشباب في القاهرة . وقد رأيته للمرة الأولي مؤخرا في الاجتماع الوحيد الذي حضرته للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي للثقافة والذي رشحت فيه الفنان أحمد نوار مقررا لهذه اللجنة وتم بالفعل انتخابه . أما برنارد رايس فيمكن القول أنه بالفعل اكتشاف لياسر منجي نشكره عليه . وعنوان كتابه عنه كأب مجهول للجرافيك هو في محله . ف " رايس " أسس قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة عندما كان اسمها مدرسة الفنون الجميلة العليا بين عامي 1933 و 1934 . وتخرج علي يديه أوائل الفنانين المصريين في فن الجرافيك مثل عبد الله جوهر ونحميا سعد . ولم يتحدث أحد في مصر عن هذا الفنان الانجليزي منذ رحل عن مصر عام 1948 . ومن المعلوم أن المعلمين الأوائل للفنانين التشكيليين المصريين كانوا من الأجانب، وبخاصة من الدول التي كانت لها جاليات كبيرة في مصر مثل انجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان . وقد تمت الكتابة عن عدد من هؤلاء المعلمين الأجانب في مطبوعات قليلة متنوعة . باستثناء " برنارد رايس " ربما بسبب تخصصه الفني الذي كان الأقل شهرة واصبح الأكثر انتشارا . علي العكس من معلمي فنون التصوير والنحت مثلا . لا شك من أن دعم المجلس البريطاني لمؤلف الكتاب المهم مكنه من الإحاطة بكل وثائق ومستندات ومراجع وصور هذا الكتاب، المشغول بعناية، والموزعة في مؤسسات إنجليزية علمية وفنية مثل جامعة جلاسجو والمتحف البريطاني ومكتبة الفنون الخاصة بالمجلس البريطاني في لندن، بل وصالة كريستي الشهيرة للمزادات الفنية . كل هذا أدي إلي كتابة مرجع قيم مفصل متمتع بأسلوب أدبي، عن الفنان الإنجليزي، ليس فقط في المكتبة العربية، ولكن، وكما يقول الدكتور ياسر منجي نفسه، في مكتبات العالم بشكل عام حتي الإنجليزية المنتمي إليها . فقد اقتصر الحديث عنه من قبل علي الكتب التي تتناول فن الجرافيك، ولم يخصص له كتاب بذاته . لقد استفدت شخصيا من المعلومات التي أوردها الدكتور ياسر منجي عن الفنان الإنجليزي ودوره ليس فقط في فن الجرافيك المصري الحديث، بل أيضا في الحياة الثقافية والسياسية، متخذا في ذلك منهجا علميا متكاملا في تناول الفنان .