واحد من أبرز ملامح عصر الانتقال الديمقراطي الذي نحاول- جاهدين- صناعته وصياغته، رغم إعاقات قيم جاهلة ومتخلفة، وقوي شريرة ومتآمرة في الداخل والخارج هو: تسييد معني (النسبية) كبديل عن (الاطلاقية)، وإقرار فكر »الأغلبية« عوضا عن فقه (الإجماع). وهذا - في الحقيقة- ما يجعل من عملية اختيار رئيس الجمهورية بالنسبة لكل واحد فينا، قراراً ينبغي له أن يتكئ علي حشد من المبررات والذرائع والحيثيات، وليس مجرد تجاوب مع زقزقة نزوة تفضيل عاطفي، أو انصياع أعمي لمقتضيات ارتباط تنظيمي. وبهذا المنطق أيدت الفريق الدكتور أحمد شفيق لرئاسة الجمهورية في الجولة الأولي وأسانده في الإعادة مستندا إلي عدد كبير من الأسباب أفاض الكثيرون في الحديث عنها مثل: الكفاءة الإدارية، والانضباط، والثقافة الاستراتيجية والأمنية، وحماية الدولة المدنية، والتاريخ المعروف والمسجل، وتجسيد قيمة رجل الدولة، وواقعية البرنامج والشعار، ولأنه الرجل الذي كنت- مع آخرين قبل الثورة- بعامين نؤيد ضرورة تصعيده إلي رئاسة الحكومة حين بدا أن البلد في طريق مسدود يحتاج إلي بديل عن تشكيلة رجال الأعمال الوزراء، وصيغة زواج المال بالسلطة. ولكنني- في سياق هذا المقال وإطاره- سأتعرض إلي نقطتين بالتحديد أراهما الأكثر إلحاحا في تشكيل موقفي التصويتي، وصوغ خطابي الصحفي المكتوب، إلي الرأي العام وهما: (المصالحة الوطنية) و(أدب مخاطبة الناس). المصالحة الوطنية هي الفكرة التي وردت في برنامج الفريق شفيق كثيرا، ورأيتها الاحتياج رقم واحد في حالة مصر اللحظة الراهنة.. ربما - حتي- قبل الأمن والاقتصاد اللذين يضغطان علي أعصاب المجتمع كله ليضعهما في المرتبة الأولي علي سلم الأولويات، إذ - في تقديري- لن يستتب الأمن، ولن يتدعم الاقتصاد إلا عبر تلك المصالحة الوطنية التي تحاول العبور بنا من حال الاستقطاب المقيت بين ثنائيات (رأسمالي واشتراكي) و(مؤمن وعلماني) و(مع التاريخ وضد التاريخ)، و(مسلم ومسيحي).. وأخيرا تلك الثنائية المستحدثة الكريهة (ثورجية وفلول) والتي حاول البعض عبرها احتكار ثورة يناير التي تنتسب إلي الشعب كله، وجر المجتمع إلي وضع يمزقه- تاريخياً- علي نحو غير مسبوق، ويقضي علي فرصه في تخليق مستقبل يعيش فيه الجميع مع الجميع. المصالحة الوطنية ضرورة ضاغطة، وقد أدركها الفريق شفيق بوعي حقيقي، لأن تلك المصالحة هي التي تمنع انفراد فصيل واحد بالرأي وبالحكم وبالقرار، وهي التي تقود- من خلال التنوع- إلي النسبية وليس الاطلاقية، وإلي الأغلبية وليس الإجماع. ولست - هنا- في حاجة إلي تكرار ما أصبح بعضا من يقين الكافة، من أن كل القوي السياسية التقليدية والتاريخية كانت أجزاء من النظام القديم وشقفات من الفسيفساء أو الموازييك الذي يرسم لوحته، وأن الثورة لم تقدم لنا - بعد- تنظيماتها أو قواها المنظمة، ولعلي واحد من أكثر المنادين إلحاحا علي ذلك المعني، ومن هنا كان ترحيبي - في هذه الصحيفة بالذات- حين تحرك الدكتور محمد البرادعي لاطلاق حزب جديد. كما، وبالإضافة إلي غياب ظهور الأحزاب الثورية الجديدة، فإن القوي القديمة والتقليدية لم تقدم لنا - بعد- صيغها المتجاوبة مع قيم الثورة، والمجيبة عن أسئلتها.. ومن ثم لا معني - هنا - للتكرار الببغائي العبيط عن إعادة انتاج النظام القديم، إذا أنهت ثورة 52 يناير ذلك النظام القديم، فيما قوي البلد السياسية والحزبية هي التي لم تقدم - بعد- بدائلها الفكرية والتنظيمية له. وحسنا فعل الفريق أحمد شفيق حين أوضح - غير مرة- ان العجلة لن تعود للوراء، ضاغطا علي استحالة فكرة اعادة انتاج النظام القديم، وهو نفس ما جري في فرنسا حين أدين عهد جاك شيراك موصوما بالفساد، فأدار ساركوزي حملته الأولي عام 7002 تحت شعار: (قطيعة مع الماضي). ونعود إلي فكرة المصالحة الوطنية.. فلقد طرحها بعض النابهين في الشهور الأولي بعد الثورة، حين قرأوا المشهد السياسي في البلاد علي نحو صحيح، وأدركوا أن عقدة صياغة المستقبل إنما تكمن في ذلك التشرذم والتشظي، والانقسام والرغبة المريرة المتواصلة في الانتقام، وقد غذتها نوازع بعض القوي الراغبة في الاستفراد بالساحة، والتي تمكن منها شعور عجيب يريد أن يرمي الملايين من أفراد الشعب بالإدانة (من دون جريمة جنائية) ممارسا النفي، والعزل، والاقصاء، والترويع، والمطاردة علي نحو يخلي المسرح - تماما- أمامها، فتصبح الممثلة الوحيدة والمطربة الوحيدة، والراقصة الوحيدة، والمتفرجة الوحيدة!! وعلي أنني لم أك - يوما- عضوا في أي من الأحزاب المصرية ولن أكون لضرورات عملي المهنية، فإنني شعرت أن ذلك الاقصاء لم يك لوجه الثورة، وإنما لصالح فصيل واحد حاول ان يسحب معه في ذلك التوجه مثقفي اليسار والليبرالية الذين - في طفولة سياسية- تجاوبوا، ثم استفاق بعضهم- فجأة- حين تبين أنه -أيضا- صار هدفا لهجوم ذلك الفصيل ورغبته في الاستفراد والاستحواذ. ولقد حمل البعض في الشهور الأولي للثورة رغبة المصالحة الوطنية إلي المجلس العسكري مقترحا استنساخ تجربة جنوب أفريقيا بعد مانديللا التي حملت عنوان: الحقيقة والمصالحة Truth&reconcilliation، وأظن - إن لم أك مخطئا- أن الذي تحدث وقتها عن دراسة تلك التجربة كان اللواء مختار الملا. ولكن قوي الاستفراد هاجت وهيجت مانعة منطق المصالحة ومعيقة، ليبقي البلد مشدودا بحبال غليظة إلي اتجاهين نقيضين يشطراه ويمزقاه، فيخلو الجو ويصفو لمن يريد الشقشقة علي جميع الأغصان بعدما صارت حكرا خالصا له. لم تكتمل المحاولة - إذن- ولم يكررها أحد، إلي أن طرحها الفريق شفيق - بجسارة وفهم- واقترنت عنده- كذلك- بالتأكيد علي استحالة إعادة انتاج النظام القديم، و بتلك (القطيعة مع الماضي) التي وطدها في عبارة »التاريخ لن يعود إلي الوراء«. مصر تحتاج إلي ابنائها- جميعا- وإلي التنوع والنسبية والأغلبية وترفض من يقودها إلي الواحدية، والإطلاقية، والإجماع.. ولهذا ثمنت غاليا طرح الفريق شفيق لفكرة المصالحة الوطنية، وإصراره علي مد يده للجميع، والتحرك لبناء مصر الجديدة التي تحتاج إليهم كلهم. ................... أما الفكرة الثانية التي أطرحها - اليوم- في سياق مبررات تأييدي للفريق الدكتور أحمد شفيق، فهي: (أدب الحديث إلي الناس)، إذا لم يرد في كلامه إلي الجمهور- عبر الأحاديث الصحفية أو التليفزيونية، أو المؤتمرات الصحفية والخطب- مرة واحدة كلمة فيها ما يخدش أسماعهم، أو يثير لديهم تلك الحساسية التي يستشعرونها إزاء من يتكبر عليهم أو يتعالي، وحتي في المرات التي اضطر الرجل فيها إلي الاشتباك مع خصومه حين غالوا وأوغلوا في تجريحه، أو محاولة الاعتداء علي حقوقه، أو حجب فرصه في التواصل مع الناس، فإنه كان يفعل - في أضيق الحدود- مستخدما المعلومات لا الشتائم. مسألة أدب الحديث إلي الناس هي قيمة في ذاتها، لأنها- أولاً- تعني احترام السلطة الرمزية والمعنوية للشعب والامتثال أمامها وأمامه، ولأنها ثانياً تعكس خلاق المرشح وبنيته القيمية والمبدأية التي تدخل ضمن عملية تقييم الناس له. ولا أعني - هنا فقط- كلمة: (أفندم) التي تتكرر علي لسان الفريق شفيق طوال حديثه، والتي أورثتها له تربيته العسكرية، ولكنني أقصد خلو مخاطبته للناس من الغلظة والخشونة، وإن اتسمت بالحزم فيما يتعلق بالقانون والنظام والانضباط.. وهذا بالضبط- ما يريده المصريون في حديث رئيسهم المقبل إليهم. ربما - في هذا الإطار- أشير إلي أن جزءا من أدب الحديث إلي الناس هو وضوح القصد واستقامة المعاني، وعدم الاستسلام لعادة أو شهوة اللف والدوران التي يعشقها البعض ويمارسونها حين يروغون من التزامات أي موقف عبر مطاطية عباراتهم حمالة الأوجه. ................ أردت في السطور السابقة شرح بعض من حيثياتي في تأييد اسم الفريق شفيق لرئاسة الجمهورية والتي أضمها إلي منظومة الأسباب والمبررات التي أعلنتها قوي وطنية، ومثقفون ومهنيون، وشباب، ونساء كثيرون، وشرحوها علي امتداد الماراثون الانتخابي الذي يفضي بالبلد إلي أفق جديد.