عزت القمحاوى هل وصلت رسالة مليونية الجمعة الماضية إلي العنوان الصحيح؟ أتمني أن يكون هناك من تسلم الرسالة وأن يهتم بقراءتها، وأن يتذكر مسيرة عام ونصف من عمر الثورة؛ فآفة هذا البلد الآمية وآفة هذه الحقبة النسيان. جمعة "حماية الثورة وتقرير المصير" واحدة من أكثر الجمع شبهًا بأيام الثورة الأولي، حيث خرج عشرات الآلاف في المحافظات، وإن تركزت الكاميرات كالعادة علي ميدان التحرير. وهذه الحقيقة بحاجة إلي من يقرأها ويتذكر خطأ مبارك القاتل الذي شاركته فيه كتيبة إعلامية لم تزل في مواقعها، وهو تجاهل الغضب الشعبي العارم من أسوان إلي السلوم وتصوير الأمر علي أنه معركة بين الحكم ومجموعة من المتظاهرين في ميدان التحرير. من ذلك الخطأ في القراءة والخطأ في التقدير جاءت أقبح مؤامرة لتصفية الثوار بالميدان ليل الأربعاء المظلم المعروف باسم الدلع "موقعة الجمل" والتي أظهرت الوجه الكريه للنظام وقطعت الطريق أمام أية فرصة لبقائه. والعجيب أن يمضي مبارك إلي سرير المرض ويترك ذات الأسلوب في الفهم والمعالجة علي سرير الحكم؛ فكان الشغل الشاغل خلال عام ونصف هو إخماد التحرير وليس التعامل الجاد العاقل الكريم مع استحقاقات المرحلة. والجمعة جاءت لتقول إن التحرير لن يخمد، وإن الثورة ليست ميدان التحرير فقط، ولن تموت إذا تمت تصفية الميدان، ولن تستقر شرعية ملاك ولا شرعية شيطان قبل أن تتحقق مطالب الثورة التي مات من أجلها أنبل من فهم وأشجع من غضب. نعم تباينت الأصوات كثيرًا، وظهرت العديد من الخلافات والمشادات بين المنتمين لتيارات مختلفة، ولا يجب أن يغري هذا الافتراق من يتربصون بالثورة؛ فهذا الاختلاف من طبيعة الأمور. يتكاتف الثوار ويلتفوا حول هدف واحد في البداية، ثم يتفرقون بعد إنجاز الهدف، وهذه الفرقة ليست بالضرورة من أجل مصالح ذاتية، بل كثيرًا ما يحدث الاختلاف لأن كل طرف يري أن طريقته هي الأفضل لتحقيق التغيير المنشود. والذين تركوا الجبل واستداروا لجمع الغنائم هم أيضًا بحاجة إلي قراءة رسالة الجمعة علي وجهها الصحيح. وأعني هنا جماعة الإخوان التي كانت موجودة في الحياة السياسية دائمًا والتي كانت موجودة في الثورة ولو متأخرًا. السلفيون قصة أخري، لن تصلهم أية رسالة؛ فهم أساسًا ضد الاستماع إلي البشر الفانين وناقصي الدين بنظرهم. ظهورهم كان محاولة لإطفاء نور الثورة في خطيئة سياسية كبيرة تم ارتكابها عمدًا من أجل إثارة الفوضي بما يتيح التنصل من استحقاقات المرحلة. لكل عمل أو لعب قواعده التي تستبعد من يخترقها. لا يمكن قبول لاعب كرة ينزل إلي الملعب برشاش ولا يمكن السماح لمصارع بحمل سكين، وكذلك لا ترخص الدول الجادة في السعي إلي الديمقراطية لأحزاب دينية أو وطنية تعتبر أعضاءها فوق الآخرين بسبب الدين أو العرق، تبايع بالدم، وترفض القانون وتتخذ من الله درعًا سماويًا فتدعي أن ما يراه الحزب هو شرع الله، مثلما يري شعب الله المختار أن احتلال أرض الآخرين وتقتيل أبنائهم هو شرع الله ومنحته إلي شعبه. هذه الأحزاب قامت ضد القانون وضد قواعد المشاركة الديمقراطية مثلما قام الحزب النازي في ألمانيا ودخل إلي السياسة من باب الديمقراطية ثم ما لبث أن ابتلعها وجر ألمانيا وأوروبا ومعهما العالم أجمع إلي الدمار. ويجب علي من استحضر العفريت أن يصرفه. وأما الإخوان فيجب أن تصلهم رسالة الميادين علي وجهها الصحيح، وبدلاً من أن يطلبوا من الآخرين النسيان عليهم هم التذكر.. الذين فقدوا نور عيونهم أسر الشهداء لن ينسوا انصراف الإخوان عن الثورة، بل وتخوينهم الثوار، وتشكيك برلمانهم في صحة وقائع محمد محمود. عليهم ألا يتذكروا ما فعلوا منذ الاستفتاء فحسب، بل أن يتذكروا كل تاريخ الجماعة السابق، ويبدأوا في العمل بفلسفة جديدة عكس تلك التي حكمت آداءهم طوال تاريخهم المديد. يتصور البعض أن ما يحكم أداء الإخوان هو عقدة السرية التي تتحكم في سلوك الجماعات المطاردة. وأزعم أن هذا غير صحيح بالمرة؛ فعقدة السرية تخلق عقدة الارتياب. وسلوك الجماعة يبدو علي العكس مندفعًا وواثقًا بالآخرين إلي درجة جعلتها تبدو مدمنة خسارة. ربما تحتاج الجماعة إلي بعض الارتياب في الآخرين من أجل مستقبلها. ربما تكون عقدة التخفي وخبرات المطاردة قد أثرت علي الفلسفة الاقتصادية للجماعة وفرضت علي الإخوان الاتجاه إلي الربح السريع من خلال اقتصاد يسهل نقله وتفكيكه عندما يحتدم الأمر. ويبدو أن المأزق السياسي للجماعة ناتج عن سحب فلسفتها الاقتصادية علي آدائها السياسي. ولست متأكدًا من أن الفصل بين عقيدة الجماعة الاقتصادية وعقيدتها السياسية أمر ممكن. الأوقع والأجدي للجماعة ولمصر أن تتخلي عن فلسفتها في الاقتصاد والسياسة جميعًا. أدارت الجماعة حتي الآن اقتصاد البقالة. هذا النوع من الاقتصاد القائم علي تدوير الموجود يضر البلاد فقط من دون أن يضر الجماعة أو مليونيراتها؛ فالفلوس فلوس سواء جاءت من الصناعات الثقيلة أو من التجارة، لكن إدارة السياسة بنفس فلسفة اقتصاديات البقالة يضر الجماعة قبل أن يضر غيرها. وقد أوضح التدهور السريع في صورتها عند قطاعات واسعة من الشعب خطورة السعي إلي الربح السريع، مثلما أوضحت الجمعة أن النسيان لم يعد خيارًا مطروحًا، والرهان عليه رهان فاسد.