معظم مكائد التاريخ ترسم في الليل وتنفذ بالنهار، هكذا تكلم مونتسكيو في كتابه الشهير"خطابات فارسية"، وهي عبارة جاءت أكثر تدقيقاً مما ذكره المؤرخ الروماني الشهير " بلوتارك " حيث قال: في سواد الليل يصنع معظم التاريخ، وسواء تم تنفيذه ليلاً أو نهاراً فإن التدبير كله يتم في سواد الليل، ذلك أن التخطيط والتدبير والمؤامرات ترتسم في أذهان أصحابها في هدأة الليل وتحت سدوله خصوصاً إذا ما ارتبطت بعمل غير مشروع يحتاج فيه صاحبه للتخفي من الآخرين والهروب من وضح النهار خشية افتضاح السر، وتحسباً للمساءلة فهو غالباً مايتسلح لمكيدته بالمباغتة والأكاذيب والالتواء. ولأن موروثنا الشعبي غالباً ما يعبر عن ضمير الأمة وفطرتها النقية فقد حفلت حكاياه ورواياته بإدانة كل سلوك معوج أو مكيدة وتآمر ووصفتها بعبارة الإدانة البليغة "حيك في الليل أو تم بليل"، أي في مبعدة عن جادة الصواب وفي مجافاة لصحيح السلوك وقواعد الأخلاق وروح القانون ونصوصه. ومما يحكيه علي مبارك في "الخطط التوفيقية" أن محمد علي لم ينم أسبوعاً كاملاً قبل تنفيذ مؤامرته علي المماليك في مذبحة القلعة، وروي عن جنكيز خان أنه كان ينام ساعات الظهر أما بقية الليل فكان يقطعه إما في فراشه أو متخفياً وحده يفكر في مكائده ومؤامراته. والحق، كما يقول الكاتب الكبير د.حسين مؤنس في كتابه الرائع "أحاديث منتصف الليل" أن الكثير من مؤامرات التاريخ وأحداثه صنع فعلاً في الليل، وكانت تلك هي القاعدة في الماضي عندما كان الذين يصنعون التاريخ جبابرة يخدمون أنفسهم وأهواءهم دون نظر إلي مصالح وطن أو قواعد أخلاق. في الليل يجلسون مع أنصارهم وندمائهم ويقررون ما يريدون، وفي الصباح يفاجأ الناس بالحوادث دون أن يفهموها، فليس من المهم أن يفهموها، بل كان من الخطر أن يحاولوا فهمها، لأن الناس في نظرهم قطعاناً من الغنم، والأغنام تساق بالعصا ولا يسمح لها بإمساك العصا أبداً. ويقول حسين مؤنس أيضاً "كان ذلك في الماضي، تغير الحال اليوم ولم تعد الأمور تدبر بليل في إجتماع بين المسئول أو الوزير وندمائه، وإنما تناقش في إجتماعات منظمة علنية وفي مجالس التمثيل السياسي حتي لا نفاجأ بالإنقلابات والقرارات التي لا يفهمها أحد إلا الذين اتخذوها". وهكذا ينبغي أن تكون الأمور ذلك أن عالمنا الحديث وبما حمله من تحولات وتغيرات في بنية المجتمع ووسائط المعرفة وثورة الإتصالات ومفاهيم السيادة وتدرج السلطات وحدود القانون ونوعية المؤسسات العامة، ما عاد يسمح بمثل ما كان معروفاً من تجاوزات السلطة وتغول المتنفذين وسرية القرارات ومفاجآت الأحداث الكبري، وحتي في بعض الحوادث صغيرة الحجم بعيدة الأهمية قاطعة الدلالة. تغير العالم وتغيرت معه مفاهيم كثيرة وبفضل ثورة الإتصالات والمعلوماتية والعولمة تغيرت مفاهيم كانت مستقرة عن السيادة والقانون الدولي، ودخلت إلي أدبيات السياسة العالمية مصطلحات لم تكن معروفة من قبل عن التدويل المطرد للعالم والتدخل الإنساني وتغول آليات السوق وتوحش الرأسمالية العالمية وعسكرة العولمة، ونمت في مقابل ذلك كله صيحات المقاومة في استجابة إجتماعية من ضمير العالم الذي خرج في بورتو الجيري وسياتل وجنوا وديربان وكيوتو ضد الظلم ودفاعاً عن حقوق الإنسان ومصالح العالم الثالث والدول الفقيرة، وتعاطفاً مع المقهورين والمهمشين ضحايا العولمة الإقتصادية وجبروت الشركات متعددة الجنسيات وتحكمها، وتغيرت مفاهيم كانت مستقرة عن العلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا، وتحول التاريخ من علم ماضوي يعني بأحداث الماضي وأعمال الزعماء والقادة والأبطال إلي فعل مستقبلي يعني بحركة الجماهير وأشواق البشر وتطلعاتهم، وتغيرت الجغرافيا السياسية حيث نقلت شاشات الفضائيات ما يقع الآن حالاً فوراً في فلسطين ودارفور والعراق وهاييتي وتايلاند والصومال ورواندا وإريتريا، ومعها كانت الإستجابية الإجتماعية التي جعلت المواطن العالمي جزءاً من الحدث فور وقوعه وحتي أعطته القدرة علي التدخل المباشر في توجيه مستقبل التاريخ بعيداً عن حواجز الجغرافيا وتحكمات القوي الكبري. إذن لم يعد التاريخ يحاك بليل ولكن بعض الصغار مازالوا يلعبون اللعبة القديمة دون وازع من ضمير ودون أي إحساس بمسئولية سياسية نحو مصالح وطن ومستقبل أمة ومشروعات نهوض وتقدم وتنمية، يساعدهم علي التمادي في غيهم زمرة من محترفي النفاق وخدم المكاتب وبعض معدومي الكفاءة من مبتسري التكوين والنضج، وتلك آفتنا الكبري في وطن منكوب ببعض أبنائه وبعض وزرائه وكثير من أصحاب الرابطات الحمراء فاقدي النخوة محدودي الأفق ممن ينقضون علي كل نجاح ويكيدون بليل لكل مجتهد ويضربون بكل غباء وغشم مشروعات مصر الكبري، يغتالون المستقبل حتي لا يتجاوزهم ببشاراته وآماله وارتفاع هاماته، ذلك أنهم صغار يساعدون صغاراً وأقزام يخدمون أقزاماً، وينسون في حمأة انفعالهم وضلالهم أن مصر يحميها الله وكثير من رجالها المخلصين. وتعالوا معي نطالع واحدة من حكايا حسين مؤنس في "أحاديث منتصف الليل" إذ ذكر تحت عنوان " خيانة أبي البسام" أنه في الأربعاء السابع والعشرين من مارس 817م الموافق للرابع عشر من رمضان 202ه قامت في قرطبة ثورة شعبية كبري علي الحكم بن هشام ثالث أمراء الأندلس التي أسسها جده عبد الرحمن الداخل، ولأنه يخلق من ظهر العالم فاسد فقد ولي الحكم بن هشام علي قرطبة الفتية القوية كثيرة الخيرات والجبايات وكانت ذات قيادة عسكرية وافرة العدة والعدد حسنة التدريب يقودها قائد عظيم ذو إخلاص وعلم وخبرة وكانت هي درة التاج في الأندلس، الأمر الذي لم يقدره وزيرها الحكم بن هشام الذي اتصف بالنزق وضعف الشخصية والخفة، فاستطال علي الناس واستهان بهم وعطل مصالحهم ونكل بالعلماء والنابهين وأصحاب الفكر وأهل الفقه والدين، وصار يقضي معظم وقته في العبث والكيد مع ندمائه وخدمه حتي حاز كره الناس وضيقهم به وخروجهم عليه وأوسعوه في مجالسهم وندواتهم هجاء واستهزاء وتنكيتاً وتبكيتاً فثارت ثائرته وأخذ ينكل بزعمائهم ويكيد لهم بليل، واستغل غيبة الخليفة فاجترأ علي عالمهم وقائدهم المحبوب وتربص به بغية اغتياله وأطلق عليه كلاب حاشيته يخوضون في سيرته ويقدحون في كفاءته وقدرته وعطائه، وهنا اشتدت ثورة الناس علي ذلك الوزير المأفون وخرجوا عليه حتي أنه صلب من أهل قرطبة اثنين وسبعين رجلاً في يوم واحد وعلق جثثهم علي سور المدينة، ورغمها لم يهابه الناس ولم يتزعزعوا وكان أكبر همهم الحفاظ علي زعيمهم وعالمهم الجليل فأخفوه عند رجل من الثقاة في عصره رغم أنه يهودي علي غير ملته، ظل عنده نحو العام ثم بدا له أن يلجأ إلي ابن البسام صديقه القديم كاتب الوزير الأثير عنده، فانتقل إلي داره في الليل واستأمنه علي نفسه، لكن أبا البسام قدمه قربانا للوزير فلما مثل بين يديه عاتبه الوزير وسأله أين استترت كل هذه المدة الماضية، فقال عند يهودي أحسن وفادتي ولم يكن خائناً متآمراً مثل كاتبك، فألتفت الوزير إلي أبي البسام وقال: يهودي يحفظ الرجل ويخاطر بنفسه ليصون عهده، وأنت يأتمنك الرجل فتخونه، أنت لا عهد ولا أمان لك ولن تخدم معي بعد اليوم، وخرج أبو البسام هائماً في الأرض ومات علي فاقة وذل وعوز. كانت هذه واحدة من أحاديث منتصف الليل عند حسين مؤنس، وقعت أحداثها عندما كان التاريخ يحاك بليل، أما التاريخ الآن فيكتبه رجال أولو عزم وقوة يعرفون أقدار الرجال ويعرفون للمسئوليات حدودها وأحكامها، لايتآمرون بغية استحواذ أو سيطرة أوتنفذ، فالمراكز والمناصب تجئ وتذهب، وعلي قلتهم يبقي الرجال.