الفكرة جيدة .. أن يتم تسليط الأضواء علي نماذج من »رواد الاستثمار« في تاريخنا الحديث ، الذين عمل بعضهم في أصعب الظروف و حققوا النجاح و أدوا لوطنهم أعظم الخدمات ، و كان منهم رجال مثل »طلعت حرب« سيظلون علي الدوام جزءاً عزيزاً من النضال الوطني و من سعي مصر الدائم نحو الاستقلال و النهضة و التقدم . الفكرة قامت بها وزارة الاستثمار حين أصدرت سلسلة من الكتيبات حول رواد الاستثمار تعيد الآن »دار الهلال« طباعتها وتوزيعها مع الزميلة " المصور " لكي تنعش الذاكرة الوطنية من ناحية و لكي تقدم دروساً لأجيال جديدة مطلوب منها أن تبادر وتتعلم وتكتب لنفسها وللوطن صفحات جديدة من النجاح . الفكرة بلا شك جيدة، و لكن المهم كيف تتحول الأفكار إلي واقع . ومن هم »رواد الاستثمار« الذين تقدمهم لكي يكونوا القدوة و النموذج ، ولا شك أن في تاريخنا الكثير من القامات الاقتصادية التي كافحت و ناضلت وخاضت المعارك وحققت النجاح لها وللوطن الذي كان يسعي لاستعادة ثرواته المنهوبة و تحقيق الاستقلال الاقتصادي، تماما كما يسعي لإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال السياسي. هكذا لم يكن طلعت حرب مجرد اقتصادي ناجح بل كان جزءاً هاماً من حركة وطنية ، ومن أجل هذا حاربه الاحتلال وأعوانه و النصابون الأجانب الذين كان الاحتلال قد مكنهم من السيطرة علي اقتصاد مصر . و لم يكن طلعت حرب وحده بل كان تياراً استمر مع استمرار الحركة الوطنية، و لم يكن أعداؤه أيضاً مجرد نماذج فردية بل كانوا تياراً استمر حتي الآن !! وبالتالي فمن المهم حين نقدم نماذج من " رواد الاستثمار " أن تكون الرؤية واضحة ، وأن نكون مدركين لخطورة القيم التي نغرسها في المجتمع والتي أظن أنها الهدف الحقيقي من وراء إصدار هذه السلسلة التي تخصص العدد الثاني منها للحديث عن أحمد عبود " باشا" هذا الرجل الذي بدأ من الصفر ليصبح في سنوات قليلة واحداً من أغني أغنياء مصر قبل ثورة يوليو، و ليسيطر علي العديد من الصناعات ، وليصبح لاعباً أساسياً في الحياة الاقتصادية والسياسية ، تؤلف الحكومات في منزله وتسقط الحكومات بنفوذه . إنها قصة نجاح مذهلة ينتقل فيها الصبي الذي كان أبوه مجرد صاحب حمام شعبي ليصبح رجل الصناعة الذي لا تقف طموحاته عند حد . قصة كفاح لم يستسلم فيها الرجل لظروف نشأته ، بل عمل و تعلم و كافح وصعد من القاع إلي القمة . هذا هو الدرس الذي يقدمه الكتيب الصادر عنه كرائد من رواد الاستثمار ثم يطالبنا بألا نترك بعض السلبيات "البسيطة!!" تفسد الدرس او تشوه التجربة . اما هذه السلبيات "البسيطة!!" التي لا ينبغي ان تؤثر في تقدير تجربة الرجل ، فإليك بعضها: ان مسيرة الرجل بدأت حين سافر الي فلسطين ليعمل مع الجيش الانجليزي هناك ثم لتتفتح أمامه أبواب الجنة الموعودة حين يوافق مدير الأشغال العسكرية في الجيش الانجليزي علي زواجه بابنته !! ثم ينشئ المهندس الشاب شركته الخاصة التي يمنحها الجنرال والد زوجته معظم عقود الاشغال الخاصة بالجيش في فلسطين ، و بعدها يساعده في تولي الأعمال المماثلة لجيش الاحتلال الانجليزي في مدن القناة بمصر حيث القاعدة الأساسية لبريطانيا في المنطقة ، و ليحقق بذلك ثروات هائلة كانت مدخلة للاستثمار في مصر ، و كانت أيضاً أساساً لعلاقة لم تتقطع مع الاحتلال حتي رحيله بعد الثورة !! وعليك ألا تقف طويلاً أمام حقيقة أن " رائد الاستثمار " عبود باشا كان مع فرغلي باشا (صاحب الكتاب الأول في السلسلة) في مقدمة المتآمرين لإسقاط طلعت حرب و إبعاده عن بنك مصر و شركاته . و انه و فرغلي كان كل منهما يسحب يوميا نصف مليون جنيه من حساباته حتي ينكشف البنك و يجبر طلعت حرب علي الاستقالة (!!) ليخلفه في موقعه رجل الملك و صديق عبود الأثير: حافظ عفيفي! وعليك ألا تقف طويلاً عند قصة التآمر مع أصدقائه الانجليز لابعاد الوريث البلجيكي الشاب لمؤسس شركة السكر التي كان عبود شريكا فيها، ليتم تجنيد الوريث ويقتل في الحرب و يسهل لعبود السيطرة علي الشركة .. فالحسم في هذه القصة - كما يقول الكتيب - ليس ميسوراً !! وعليك ألا تقف طويلاً عند قصص فساد لم تتوقف منذ ان انفجرت أزمة سياسية علي خلفية التعاملات الفاسدة بين عبود ووزير الأشغال المحسوب علي الملك فؤاد ، و التي يروي تفاصيلها الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته السياسية ، أما " الكتيب " الخاص بعبود كرائد للاستثمار فيقول إن " الخلاصة أن علاقة أحمد عبود مع المندوب السامي البريطاني قد أفلحت في تجاوزه للازمة العاصفة . فقد تدخل الانجليز بكل ثقلهم للضغط علي الملك فؤاد الذي ضغط بدوره علي رئيس الوزراء لتقديم استقالته . و جاء في كتاب الاستقالة أنه تقدم بها بناء علي رغبة الحكومة البريطانية "!! أما القصة التي شاعت قبيل ثورة يوليو بأن عبود باشا قد اسقط وزارة الهلالي التي رفعت شعار التطهير و نزاهة الحكم لانها طالبت شركاته بضرائب تزيد علي خمسة ملايين جنيه . فما كان من عبود - وفقا لهذه القصة - إلا أن دفع للملك فاروق مليون فرنك مقابل اقالة الوزارة .. هذه القصة التي يصفها الكتيب بأنها مجرد " حكايات وإشاعات" لم تكن كذلك عند رأي عام يعرف الكثير من قصص فساد الملك و الحاشية و سقوط الأحزاب و نفوذ عبود و أمثاله . اوضاع يصفها الكتيب نفسه بأنها "مصالح مشتركة بين أحمد عبود و المندوب السامي البريطاني ( و القصر بالطبع ) و تداخل و اختلاط بين السياسي والاقتصادي ، و روائح فساد و محسوبية ، و نهاية ينتصر فيها الطرف الاقوي الذي يحكم من وراء ستار " و .. يبقي السؤال : هل هذا هو النموذج الذي يراد تقديمه لرجال الاستثمار ؟ و هل هذه هي القدوة التي تطالب من يبدأون الطريق الصعب للنجاح أن يحتذوا به ؟ .. مصالح مشتركة مع الاحتلال ، تآمر علي رواد الاستقلال الاقتصادي مثل طلعت حرب . تهرب من اداء الضرائب للدولة. فساد في الحصول علي الصفقات و إفساد للحكم و تسخيره للمصالح الخاصة . و الأهم : طلاق بائن مع الحركة الوطنية و عداء لرموزها و تخريب لمؤسساتها الاقتصادية و السياسية !! و لا أظن أن هذا ما ارادت وزارة الاستثمار ووزيرها الشاب الدكتور محمود محيي الدين تقديمه في هذه السلسلة ، فهو أول من يدرك بحكم بموقعه كم دفع الاستثمار في مصر - ومازال - بسبب الفساد و الفاسدين !! آخر كلام لابد من اعتذار واضح و صريح من كل الأطراف التي أثارت قضية اختفاء زوجة كاهن ديرمواس . اعتذار للشعب كله بمسلميه و أقباطه الذين لم يعودوا علي استعداد لقبول مهزلة تحويل أي خلاف عائلي إلي فتنة طائفية . بالمناسبة .. من هو هذا " المجهول " الذي يخاطب الناس بالبريد الالكتروني باعتباره زعيماً لأقباط مصر ؟! و من الذي منحه هذا " الشرف " ؟ و لماذا لا يحاسب هو و غيره علي ما أثاروه من أخطار طائفية وعلي ما انتحلوه من صفات زائفة ؟ نعرف جميعاً أن المناخ سيئ، وأن اتجاهات التطرف ( من كل الأطراف) قد كسبت أرضاً تحتاج الي جهد المجتمع كله لمواجهتها . ونعرف أيضاً ان الظروف الاجتماعية و الاقتصادية تتيح لهذا الاتجاهات فرصة استغلال شباب يعاني البطالة و الفقر وغياب العمل السياسي الحقيقي .. و من هنا فإن مسئولية الإعلام أكبر في التعامل مع هذه القضايا ، و في التأكيد علي الوحدة الوطنية في مواجهة كل الاخطار . كنت أتمني أن يكون الاحتفال بخمسين عاماً علي انطلاق التلفزيون من القاهرة مناسبة لكي تحتضن القاهرة كل الفنانين العرب من المحيط الي الخليج ، و أولهم فيروز (التي يريدون منعها من الغناء !!) لكي يحتفل الجميع بأيام رائعة قادت فيها مصر حركة النهضة العربية ، لكي يؤكدوا ان مصير الوطن العربي مرتبط باستئناف هذا الدور .