من الأفلام الربانية التي يختزنها المخ ونطلق عليها مصطلح ذكريات.. العجيب ان الصدفة لعبت دورها معي إذ جاء وصولي لمدخل حديقة القصر بتزامن غريب بعد وصولها بلحظات حيث وجدتني قبالتها وهي واقفة تقف علي البساط الأحمر في الحديقة ومعها المعلم وبعض مرافقين.. التفتت نحوي مبتسمة فبادر المعلم وقدمني إليها بتعبير كريم قطعته بخجل غريزي يلازمني في هذه الأحوال قائلة لها لا يمكن ان تتذكريني لأن.. وقبل ان اكمل قالت بل أذكر هذا الوجه قلت: في طهران الحديث الصحفي والمتحف الخاص بك.. ثم باريس هزت رأسها بلي.. دلفت لاكون بالداخل بين جموع المستقبلين وذهلت لفرط التزاحم الرهيب الذي اندفع إليها لحظة دخولها القاعة ومن نخبة منتقاة لنوعيات راقية من بشر تجمهوروا حولها السيدات أنيقات الزي والرجال ممن كان يبدو عليهم الوقار والتحضر يدفعون بعضهم البعض نحوها وحولها بنحو لا يكاد يصدق حتي انني لمحت مسحة ذعر علي وجهها ممزوج بدهشة قلت في نفسي لو كانت لاتزال امبراطورة فماذا كان عساهم يفعلون.. الكل يطلب توقيعها علي كتاب مذكراتها أو التصوير معها وفشلت محاولات الانتظام في صف واحد وكان الموقف عجيبا بعض الشيء.. د.بطرس بطرس غالي وقف بعيدا يرقب الموقف ومعه مصطفي الفقي بينما عمر الشريف تبخر في الزحام وكانت السيدة جيهان السادات قد وصلت للتو بينما الشاهبانو السابقة تتحدث في الميكروفون كما طلب منها توجه كلمة قصيرة إلي الجمع تعبر فيها عن عرفان لا ينسي لهذا البلد الذي فتح ذراعيه لعائلتها وشهامة الرئيس السادات وقرينته عندما ادار العالم كله ظهره لهم.. كانت السيدة جيهان قد وصلت في تلك الاثناء وعيني فرح مغروقتين بدموع محبوسة. في تلك الاثناء كان شريط فيلم الحياة يدور في رأسي: المقابلة الأولي معها في عهد السلطان وحكم الشاهنشاة وكنت يومها ضمن الفريق الصحفي المنتقي من صحفيين واعلاميين كبارا وصغارا يحدونا الطموح والتطلع إلي المستقبل.. كنا مصاحبين للرئيس السادات وقرينته السيدة جيهان في زيارة رسمية لايران ربما في منتصف السبعينيات.. ولا يمكن ان تنسي تلك الزيارة لفرط الروعة والبهجة التي تخللتها ومازالت صورة زهور الأوركيد التي شهدتها ترصع سندس حدائق القصر الامبراطوري علي بحر لا قزوين كأنها بالامس فلم أري أروع ولا أضخم منها حتي الآن.. كنا في ذلك العهد بداخل الصورة مع الكبار وكبار الكبار حيث يكونون.. والرئيس السادات كان يعتبر المصاحبين له جميعا كبارا وصغارا أولاده ويخاطبنا هكذا: تعالوا يا ولادي فنحيط به ونجلي إليه وحوله ببساطة بشعور فخر وامتنان ولم يكن الأمن يتدخل بمثل ما تحولت اليه الأمور فيما بعد.. في تلك الرحلة فكرت في حديث متميز اقتربت منها في احدي المناسبات وطلبت ان ارافقها يوما كاملا اتابع نشاطها واتحدث معها وقد كان ونشر الحديث الطويل بالصور في مجلة آخر ساعة بعنوان »يوم كامل مع امبراطورة ايران«.. المرة الثانية كان اللقاء معها في ظروف مختلفة تماما بباريس أواخر الثمانينيات في حفل عشاء لأشخاص معدودين لدي سفير مصر الراحل أحمد صدقي وكانت ليلة ذات شجون ثم.. هذه المرة بعد مضي كل تلك السنين وخرجت من تلك الجمهرة أحمل كتابها مهدي منها باسمي وتوقيعها... موهبة وخرجت إلي النور.. عرفت من الحياة أن أصلب النساء عودا وصمودا قد يكن أرهفهن هيئة وشكلا وفرح ديبا بهلوي احدي هؤلاء.. راودني ذلك عندما عدت إلي بيتي ولاتزال النفس مفعمة بالشجن لدي رؤيتها وقد نالت منها قسوة الزمن بأكثر مما توقعت وان بقي الرونق والبهاء.. أظن ان فقدان ابنتها ليلي ربما يكون قد أدمي منها الفؤاد وقد روت عن ذلك في نهاية الكتاب قائلة لا أحد بمقدوره ان يتغلب علي فقدان طفله وانا أعيش حدادا في صمت علي صغيرتي ليلي منذ العاشر من يونيو 1002 لأنني لم استطع مساعدة ابنتي ويمثل هذا العجز عندي عذابا مقيما... فتحت كتاب مذكراتها بمجرد العودة إلي البيت وغالبني الفضول فوجدتني أنجذب إلي الصور ثم تسللت إلي السطور الأولي فما وعيت إلا وقد استغرقتني فبقيت موغلة في الصفحات لم انتبه إلا والساعة تقترب من الثالثة صباحا.. بدأت سطورها الأولي من الذروة: »يوم الرحيل من طهران ذلك الصباح مازال يداهمني الاحساس بذات الحزن الموجع بكل حدته.. كان صمتا متوترا يخيم علي المدينة وكأنه يكتم الانفاس يوم السادس عشر من يناير عام 9791 ونحن علي وشك ان نغادر بلدنا بعدما ارتأينا ان انسحاب الملك مؤقتا بعد هجوم ضار في طهران منذ شهور لربما يساعد في تهدئة العصيان المسلح....« لم يسرقني قراءة كتاب بهذا النحو منذ سنين وجدتني ألتهم نحو أربعمائة صفحة في عدة ساعات لم يقطعهما سوي بضع ساعات للنوم.. في الصباح التالي ألغيت خروجي واستكملت قراءة المذكرات فأتيت عليها بعد الظهر.. انه فرط الاحساس بالبوح فلا يمكنني ان أصف الكتاب بغير كلمة بوح.. احسست بأنفاسها وهي تروي بتعبيرها لا يمكن ان يجيد بهذا النحو إلا من صاحب السيرة ذاتها لا يمكن ان يخرج الصدق والتفاصيل من غير صاحبها ذاته فلا صنعة هنا ولا احتراف كاتب بل موهبة صهرتها بل قد طحنتها الأقدار وطوحتها بأمواج المحيط رفعتها عاليا وحطت بها دون رحمة... لا كاتب شبح هنا ولا عفريت أزرق بامكانه ان يصف ويعبر ويفسر لنا احداثا كانت بمثابة ألغاز لم ندرك كنهها.. روت تفاصيل حياة مكتملة عشرين عاما بجوار أعالي السلطة مع ما سبق وما لحق باحداثها وشخوصها بل نقلت رائحة الطبيعة من أماكنها مع جغرافيا المواقع والبلدان.. أما الاحساس والمشاعر المتدفقة فموهبة اخري تضاف إلي ثراء أحداث قرأ العالم عنها وتواردت الانباء قدمتها من داخلها بأدق تفاصيل الحياة زاعقة الاهمية التي عايشتها في مشاهد وتقلبات.. هذا الاحساس المرهف دون افتعال والثقافة العالية والموهبة المتدفقة ومهارة التعبير يمرق بك بين الصفحات فتستغرق وتستسلم وهو من النادر في هذه الأيام فما هذا بتأليف من رأس أحد بل من داخل تلافيف مرحلة تداولها العالم ومازالت تؤثر علي مسار الأحداث.. فلا بانطباعات ولا استنتاجات ولاترديد أقوال عن فلان وعلان ويحكي انه قال.. لربما لو كتب التاريخ قديمه وحديثه من اطرافه المباشرين حتي ولو متناقضين لاختلف كثيرا عما نقرأ عنه منقولا عن الآخرين.. حياة الملوك ومشاعرهم الحقيقية لم يقدر لأي منهم أن يبوح بها فلم يسبق أن عرف عالم الكتب مثل هذا الحكي الملكي المباشر بدون تدخل أحد.. أسلوب الحكي من خلال منهجها الروائي اجتذبني فهو لون من التعبير لا رغي فيه ولا تمطي يجعلك تتثاءب أو تؤجل ولا تلكؤ ولا سير الهويني بل تتابع أحداث لاهثة والرتم متسارع ومشاهد الأحداث في تتابع وكتابتها نابضة.. كان القدر اطاح بها عاليا وحط علي هذه الحصيلة من مذكرات حكت عن أهلها وطفولتها والعوائد والتقاليد والحياة المعيشية بايران من أواخر الثلاثينيات لكن بلا اطالة ولا لغو بل تدلف معها علي مضي الصفحات تكشف وتفسر الكثير من الألغاز. لم تترك فرح بهلوي شيئا لم تقدمه في المذكرات التي تجوس بنا داخل حياتها مع الشاهنشاه واستغرقت من عمرها عشرين عاما تساوي من حياة الناس العاديين ربما خمسمائة عام أو ما يزيد.. عالم من دول وشخصيات عالمية وزعامات ومهام سياسة ورحلات وعلاقات تكشفها من موقعها الفوقاني كطرف لا تطاله قامات الآخرين ولو كانوا من المقربين... عرضت حالات اقتطعت من النفوس البشرية وعن تقلبات الشعوب عبر صور تأثيرية كأنما بريشة فنان يقدم نتاجا من رسوم انطباعية أو خطوط عبقرية تبدو عفوية تتحول إلي ايحاءات أعمق من تفاصيل لغو كثير.. فما قد يستغرق سطورا لدي غيرها يسرع الخطي بتعبيرها وينطبع في ذهن القاريء بعدة كلمات... فما هذا بكتاب بل فيلم درامي - تراجيدي مصور بالكلمات تنخسف بجواره تواضعا سيناريوهات الأفلام. الفساد اللعنة علي الفساد تصف فرح بهلوي عامي 5791 و6791 فتقول: »كان الفساد جانبا كبيرا لهذا الاستياء وزعموا انه تفشي حتي بين حاشيتنا وكنت قد سمعت بالفعل عن أشياء معينة وتحدثت مع الملك عنها وشعرت انها أضرت بنا بصورة كبيرة.. في 12 مارس 7691 احتفلنا بالعيد الخمسين علي قيام أسرة بهلوي الملكية وفي ذلك اليوم بالتحديد أحسست بان شيئا قد تغير بين الشعب والحكم الملكي وكان أقرب إلي كرباج جليدي يضرب عظامي.. بدا لي كأن ظلا غامضا يخيم علي الثقة بيننا والانسجام...« وعن جهاز »السافاك« أفاضت وقالت: »كانت قبضة الشرطة غالبا ثقيلة مثلما يحدث في معظم البلدان النامية حيث يسعي الجميع إلي تطويع مقدار السلطة القليل الذي في يده فبدلا من ان يخدم النظام يقوضه...«.. كشفت كيف تحايل اطباؤه علي اخطارها سرا لأول مرة بأن الشاه يعاني من مرض في الدم وكان ذلك في عام 7791 قالوا لها يومها ان مرضه خطير غير انه قابل للعلاج وتبين لها فيما بعد ان أول أعراض المرض ظهرت عليه عام 3791 ولكنه أمر بابقاء هذا السر دون ان تعرفه زوجته. ولكنهم اضطروا ان يخطروها دون علمه بعد أربع سنوات من العلاج برجاء ان تظاهر بانها لا تعرف شيئا. عندما أوصد العالم في وجهه الأبواب إنما أخطر وأمر وأتعس الفترات العصيبة ترويها بتتبع دقيق منها لما تعرضوا له خلال الأربعة عشر شهرا الأخيرة نعرف تفاصيل مذهلة بقدر ما هي مخزية لعالم الساسة والسياسة عندما تدير ظهرها تحت ضغط المصالح والتهديد.. حكت بالتفصيل كيف لم يجدوا غير البهاماز والمكسيك لفترة قصيرة في كل منها ثم يوصد الباب.. روت عن مدي »المرمطة« التي تعرض لها الشاه المريض خلال رحلة العلاج وكيف حط بهم الرحال في بناما حيث كادت ان تتم صفقة تسليمه إلي نظام خوميني في طهران مدعمة من خطابات بعث بها في ذلك الحين طبيبه الفرنسي إلي أستاذه وفيها ما يوقف شعر الرأس ويشي بالكثير وسط هذه الغابة الدولية الشرسة من ساسة وسياسيين.. لذا كان لزاما ان يوجد شخص ما واحد وحيد يدلل علي وجود توازن ما في الدنيا ويمد اليد إلي غريق.... شخص واحد فقط بين هذه الغابة ليفتح بيده الباب وقد أوصدت جميع الأبواب.. لذا اقدر الآن موقف السادات مائة مرة أكثر عن ذي قبل لان اختصار الموقف في مجرد شهامة ريفية تتبدي لصديق في محنة ليس بوصف دقيق بل الأمر مختلف تماما عن تبين جميع التفاصيل... لم يدر بها ويعرف غير اطرافها المباشرين... كان السادات وحده الذي محي وصمة العار عن المجتمع الدولي كله.. اتصل كارتر السادات يوم 12 مارس 0891 ليثنيه عن استضافة الشاه ولم يفلح كارتر بل الذي وجه التحذير كان السادات إذ قال له: »جيمي أريد الشاه هنا.. حيا...«! الغاز كثيرة جدا وانحلت بوقائع مباشرة روتها فرح بهلوي في مذكراتها ولم ندر بها أو بأقل القليل.