• حصن الأمة سيارة الاسعاف تطلق صافرتها.. لقد أتت لتأخذ صديقه.. بعد أن تناول كمية كبيرة من المخدرات.. يعود بذاكرته للوراء.. لقد كان مع صديقه فى كتيبة واحدة.. كان القائد يحبهما جداً.. أخذ يدرب الكتيبة على كيفية بناء الحصن.. كلمات القائد لا يستطيع نسيانها «الحصن ليس مجرد بناء من أجولة مملوءة بالرمال.. بل يبنى فى الأصل من طموحات من بداخله فى أن يخرج منه.. لا أن يظل حبيسا فيه.. يدافع عنه من الداخل.. وربما تجدون بعد ذلك أنه أكثر من ذلك بكثير». قامت الحرب.. دخلوا الأرض التى استولى عليها العدو من قبل.. شرعوا فى بناء الحصن بسرعة البرق.. القذائف تنهمر عليهم.. لا يؤثر كل ذلك فيهم.. بعض الأجولة تتمزق من شدة القذف.. أدركوا أن الحصن فى طريقه للانهيار.. شرعوا فى الخروج منه.. وقفوا حائط صد أمامه.. يدافعون عنه بأجسادهم سقط من سقط.. استطاعت قوى الامداد أن تنقذ من تبقى وظل الحصن كما هو.. وقتها فهموا أن ما يرمى إليه القائد أن الحصن الحقيقى يكمن فيهم هم.. فى شبابهم واستبسالهم.. فى الدفاع عن قناعاتهم.. فى حقهم فى حياة حرة كريمة.. يتنهد مردداً فى نفسه: «ها قد انتهت الحرب.. وعدنا.. لم يجد صديقى عملا.. انهار تحت ألم اليأس.. أدمن المخدرات». أفاق.. على صرخات من أسفل.. أم صديقه تبكى.. لقد مات صديقه.. ذرف الدموع وهو يتساءل مختنقا: «أين أنت أيها القائد لتخبرنا عن المسئول الحقيقى عن هدم حصن الأمة؟!». • دبدوب تحركه بين يديها.. تتذكر أنه أول هدية أتى بها إليها فى فترة الخطوبة.. تتأمله جيدا.. إنه دبدوب صغير.. تتحسس الفرو.. تسأل نفسها: «لماذا يحاول الخطاب دائما تقديم تلك الدمى.. ايعتقدون بتفاهة المخطوبة.. أم يعلمون أنها تحب دائما معاملتها كطفلة». تمسك بالريموت.. تتنقل بين قنوات التليفزيون.. تتوقف عند إحدى القنوات الثقافية إنه أحد البرامج المتحدثة عن الحيوانات.. فيلم وثائقى عن الدببة.. ينطلق المعلق قائلا: «أفضل الأماكن لحياة الدببة هى الأماكن منخفضة الحرارة.. أشهرها القطبان الجنوبى والشمالى.. يتميز الدب الروسى بفروه الغزير...».. أخذت تتأمل الثلوج محدثة نفسها: «ما أجملها من حياة فى أرض يكسوها اللون الأبيض.. لا تختلف الألوان فيها بين السماء والأرض.. ربما لأنها تتناسب مع طبيعة النساء التى توصف دائما بالملائكة» تسكت برهة.. تتنهد مكملة فى تعجب: «لكنها أراض منعزلة».. تبتسم قائلة: «ربما لأنها مجال فسيح لحياة الأحلام..».. تفيق على صوت جرس الباب.. إنه الزوج .. ممتلئ الجسم .. يأفف ..تحاول أن تفتح معه الحديث .. يشير بيده بعصبية مقاطعا إياها قائلا:«لا تحاولى الحديث.. أنا متعب.. سأدخل لأنام.. لا تزعجينى».. ينطلق باتجاه الغرفة.. تجلس على الأريكة وقد أصابها الحزن.. تتنهد.. تقذف بالدبدوب.. تضمه مرة أخرى إلى صدرها.. لقد أدركت أنه لم يتبق لها فى هذا المنزل سوى الدبدوب. **تزداد آلام الإنسان بشطحاته فى أحلامه وإفاقته على واقع معاكس. • العدالة يجلس خلف القضبان.. يضع يده على وجهه.. يفكر فيما سوف يحدث.. إنه اليوم الذى ستصدر فيه المحكمة الحكم فى قضيته.. لقد قام بقتل أحد أصحاب النفوذ.. اتهمه الكثيرون بالسرقة والتسبب فى التشريد.. لكنه لم يقدم للمحاكمة لأنه فوق القانون. يفيق على صوت الحاجب «محكمة».. يقف الجميع إلا هو.. يتأمل الحاضرين.. جميعهم من أصحاب النفوذ.. يشير القاضى إلى وكيل النيابة ليتحدث.. أخذ يصف بشاعة ما حدث.. أنهى حديثه بالمطالبة بعدم أخذ الرأفة بالجانى.. لم يبال بما يقوله وكيل النيابة.. انتبه لصوت القاضى وهو يقول موجها حديثه إليه.. «لقد قررت عدم توكيل أحد للدفاع عنك.. فماذا تقول فيما نُسب إليك؟!» رفع رأسه إلى أعلى متحدثا بثقة: «لم أفعل جرما لأقف فى هذا المكان».. رد عليه القاضى بحنق.. «إذن فمن قام بالقتل؟!».. أجابه بهدوء وثبات كأنه يتحدث عن مجد أسطورى: «أنا».. هاجت القاعة.. يشير إليهم القاضى بالهدوء.. سائلا إياه «ولماذا قتلته؟!».. رد ساخرا.. «لأنكم لا تستطيعون أن تقتلوه.. لقد كان فوق القانون».. حاول القاضى أن يلبس ثوب الحكماء قائلا: «لا أحد فوق القانون.. فماذا فعل لك لتقتله؟!».. يتنهد.. وقد تمالكه الحزن: «لقد سرق أحلامى.. لقد عدت أخشى الحلم.. لم أجد حلما لا يستطيع سرقته منى سوى قتله».. رد عليه القاضى ساخرا: «إنك مجنون.. لا يوجد لدىّ أى مادة فى القانون تعاقب على سرقة الأحلام».. هنا ابتسم كمن ظفر بالغنيمة بعد مشقة فانطلق قائلا: «هكذا أثبت أنه فوق القانون وأنك متواطئ معه».. كاد يصاب القاضى بالجنون.. أشار زميله الجالس بجواره إلى ورقة كتبها بسرعة ووضعها أمامه.. قرأ ما بها «يجب أن تنهى القضية الآن.. حتى لا يفضحنا هذا الفتى أكثر من ذلك». تمالك نفسه وهو يقرأ الحكم الذى كان مجهزاً.. «حكمت المحكمة حضوريا على المتهم بالإعدام».. تصفيق وتهليل.. «ظهر الحق.. تحيا العدالة».. ابتسم وهو يجلس ممسكاً بالقضبان.. لقد كان يعلم جيدا أنه الشخص الوحيد فى ذلك المكان الذى استطاع تنفيذ العدالة. • أزمة ضمير اختناق مرورى.. حر شديد.. يحاول فتح الشباك المجاور.. أزمة بين السائقين نشبت إثرها مشاجرة.. يضطجع على مقعد السيارة.. يفكر فيما اقترفه اليوم.. لقد زوّر فى أوراق عمله.. اختلس بعضا من أموال الخزينة.. لقد كان محتاجا للمال.. يحدث نفسه: «لم يكن لديك حل آخر.. بيتك فى أزمة».. يفيق على صوت السائق.. وقد بدأت السيارة فى التحرك.. «الأجرة».. يعطيه الأجرة.. يرد السائق بغضب.. «أكمل باقى الأجرة يا أستاذ».. يرد متعجبا: «لكن هذه هى التعريفة».. أوقف السائق السيارة قائلا: فى تأفف: «ليس لى حاجة بالتعريفة.. كل شىء أصابه الغلاء.. ادفع مثل باقى الركاب» ينظر إلى باقى الركاب.. لا يبدو عليهم الاعتراض.. يدفعون كل ما طلبه السائق.. لم يجد بداً من دفع الزيادة التى فرضها السائق.. تعاوده الأفكار وهو ينظر للسائق.. يتذكر رئيسه فى العمل وهو يقول له: «يجب أن تكون مرناً فى كل شىء.. اجعل العجلة تدور.. دعك من تلك الشعارات.. اترك الضمير الجمعى.. أبحث عن كلمة جمع فقط فى كل شىء حتى لا تطرح خارج المجتمع». ارتباك فى صوت السيارة.. السائق لا يتوقف عن السباب: «الملاعين.. لقد خلطوا البنزين بالماء.. ألا يوجد ضمير؟!».. يضحك الراكبون.. كأنما يشاهدون مسرحية كوميدية.. كلمات السخرية لا تتوقف. تعاوده الأفكار مرة أخرى.. يحدث نفسه: «ماذا سأفعل بتلك الأموال؟! ربما يحتاجها أبنائى.. لكنى سأظل طوال عمرى ألوم نفسى على ما فعلت سيفرحون حقاً.. لكن لن يتركنى الحزن أبدا كلما ذكرت ما فعلت.. لا.. لا.. لن يحدث ذلك.. سأصحح خطئى.. لن تدخل هذه الأموال منزلى». يحاول النزول من السيارة بسرعة.. يلاحظ رجل المرور وهو يعاتب السائق قائلا فى غضب: «كيف تقف فى هذا المكان.. هذا مخالف.. انت تحدث أزمة...».. يقاطعه السائق بابتسامة مقتضبة مخرجا من بين طيات ملابسه بعض المال.. يأخذه الشرطى.. يتجه إلى الرصيف.. يخرج صافرته.. يطلقها كأنما أحرز هدفا. يردد فى نفسه: «لن يسيطر علىّ الشيطان.. لن أفعل مثلهم».. يسرع الخطى.. أصابته بعض الطمأنينة لأنه أدرك أن الحياة مليئة بالأزمات.. لكن أقبح ما فيها أن تكون أزمتها أزمة ضمير. ** الحياة مليئة بالأزمات التى يمكن تخطيها إلا أزمة واحدة هى أزمة غياب الضمير. • راس العجل تحدّث نفسها وهى تنظر فى المرآة: «ماذا سأفعل مع ذلك الغبى؟!.. ليس لديه تفكير فى شىء سوى الطعام والشراب.. وحينما أحدثه عن وجود أشياء أخرى فى الحياة غير ذلك.. يجيبنى ببرود: «أنت لا تعلمين شيئا عن متع الحياة».. تتأفف.. تحاول ضبط هندامها.. تفيق على صوت جرس الباب.. تتجه إليه متثاقلة. يلفت انتباهها ذلك الشاب الحيران فى شباك الشقة المقابلة.. لا يكف عن الوقوف أمام المرآة.. كأنما طبعت صورته بها.. يسكب على رأسه الكثير من مثبت الشعر.. رغم ذلك مازال حيراناً فى أى اتجاه سوف يمشط شعر رأسه؟! جرس الباب مرة أخرى.. تفتح الباب.. رجل ضخم الجثة.. ممتلئ البطن.. قصير القامة.. لم يلق السلام.. ألقى بالكيس الذى فى يده باتجاهها قائلا: «لقد أتيت لك برأس العجل رغم أن الجميع كان يتصارع لشرائه.. أسرعى بطهوه.. أنا جوعان». تتجه إلى المطبخ متأففة.. يدخل خلفها «أسرعى».. يسقط السكين من يدها أسفل المطبخ الخشبى.. ينبطح أرضا.. يسرع فى التقاطه.. تنظر إليه وهو قابع على قدميه ويديه.. تضحك.. يرمقها بنظرة تعجب.. قائلا: «ما الذى يضحكك؟!.. أسرعى...» تتأمل وجهه ورأسه جيدا وهى ترد عليه بخبث: «أتعلم أن أجمل لحظات حياتى.. هى لحظة دخولك علىّ براس العجل». ** النفس البشرية هى مزيج بين العقل والعاطفة.. لا تستطيع الوصول لبر الأمان إلا بالموازنة بينهما. • حزام يهبط درجات سلم «دار القضاء العالى» يتأمل الحديد فى يديه.. يتذكر كيف وصل إلى هذه الحال.. لقد كان يملك ورشة لتصنيع الأحزمة.. ثقل الدين عليه جعل الدائنون يقيمون ضده دعوى قضائية. «أسرع فى التحرك».. كلمات الضابط تنبهه.. يحاول دفعه.. تحدث مشادة بينهما.. يتكون حزام أمنى من الجنود.. ظانين أنه يحاول الهرب.. يدخل سيارة الترحيلات.. ينظر من خلف قضبان الشباك.. يتأمل الفتيات السائرات فى وسط البلد.. لا يمر شاب إلا بجواره فتاة.. يسائل نفسه: «فيم يتحدثون؟!» ملامحهم تدل على أنهم ليس لهم قضية.. أما هو فقضيته كبيرة جدا.. تحول الشارع إلى عرض للأزياء.. يبدو أن مصممه واحد.. فجميع الموديلات العارضة ترتدى الأحزمة.. رغم اختلاف المقاسات. تنطلق صافرة سيارة الترحيلات.. تجذبه صور الفتيات المتمايلات.. إنهن يتمايلن عند سماع أى صوت حتى لو كان صوت سيارة الترحيلات.. أحد الشباب تسير بجواره فتاة.. يحاول وضع يده على خصرها.. كأنه يريد التأكد من نوع الحزام. جلس فى أرضية السيارة متنهدا.. يتساءل: «ماذا تبقى لهذا البلد بعد أن ربطت خصرها بالحزام؟!». ** الانهيار الأخلاقى هو نتاج طبيعى لتلاعب من تقع السلطة بأيديهم فى معايير القيم.