لا ينعدم في أي مجتمع, بدائيا كان أم متحضرا, أخلاقيا أو لا لا ينعدم فيه وجود نيات طيبة صادقة.. ولكن هذه النيات الطيبة لا تؤثر تأثيرا مجتمعيا. إلا إذا كان وجودها مصحوبا بمناخ طيب وبحماس في المجتمع يجتذب ويشجع أصحاب هذه النيات علي الإسهام المؤثر في نهر الحياة, والخروج من بحر الكثرة السلبية الغارقة في خضم المصالح والأغراض الخاصة والأهواء الشخصية, التي تجرف وتلهي هذه الكثرة عن الحق والصواب, نياتها السيئة أو بنظرها القصير أو إنكافئها وإخلادها إلي وهدة ما اعتادته.. وكما يشيع ويتفشي التواكل والسلبية, والقعود والتهاون, ويتناقل كالعدوي بين من درجوا عليه واعتادوه, فإن النيات الطيبة لا تعدم وسائلها التي تجمع وتؤلف بين أصحابها, وتساندهم وتواصل بينهم وتكرس وتربي تعاونهم إلي أن يكونوا قوة مؤثرة مسموعة, تقدم للمجتمع حصاد نياتها الطيبة الصادقة وصفوة جهودها ونشاطها وخدماتها وعطائها. تعارف وتجمع أصحاب هذه النيات يتيح لهم التساند والتعاون, ويمهد لتقديمهم ما بوسعهم واستطاعتهم لبث الأمان والثقة في المجتمع, وحماية الأنفس والأعراض والأموال, واحترام القيم والمبادئ وأعراف الحياة التي يقرها العقلاء ويحاكيها العامة ومستورو الحال في المجتمع. تلمس ذلك فيما درجت عليه النبوات والدعوات, فتري الوحي يختار لإبلاغ دعواه أو رسالته من بين أصحاب هذه النيات الطيبة الصادقة والحماس غير العادي, وتري المختار لأعباء الرسالة يختار ويجذب ويهدي ويجمع ذوي النيات الطيبة الصادقة, وينتقيهم من خضم الكثرة السلبية الغارقة في المصالح التي نعرفها أو نعرف عنها شيئا في تاريخ البشرية. بدايتها كانت في جماعات أو قل تجمعات لعدد بدأ قليلا أو محدودا من أصحاب النيات الطيبة الصادقة, شجعها حماسها غير العادي, وصفاء وصدق نياتها علي التجمع حول الدعوة والالتفاف حول هدايتها ومبادئها, وعلي أن تفرض فيما حولها بتعاونها وتواصلها وتساندها أسلوبا لحياتها المشتركة والفردية في إطار حظها من الفهم والإخلاص وصدق النية.. أسلوبا يصلح لمسايرة خطي الحياة السديدة في تطورها عبر المكان والزمان, وتتسع دائرته شيئا فشيئا بأثر الأسوة والاقتداء. كان مما يعين في أول الأمر علي اجتذاب ذوي النيات الطيبة الصادقة القرابة أو المصاهرة أو الصداقة أو التبعية, أو خليط من عاملين أو أكثر من هذه العوامل التي تمهد التواصل في البدايات.. فلما امتدت الدعوات إلي النشر والإذاعة عن طريق النقل الخبر والتسامع والترويج أو الدعاة والبعوث والوفود لم يعد متاحا التحقيق من صدق النيات الطيبة لدي المستجيبين بذات القدر الذي كان متوفرا في الدوائر الصغيرة القريبة في البدايات, ولم يعد هناك بد في الاكتفاء لدخول الملة بالإقرار أو الإعلان بقبولها برمز وصيغة أو بصيغة فقط. ثم شيئا فشيئا ومع تعاقب الأجيال صار دخول الدين أو الملة مفترضا بمجرد الميلاد لأب منتم إليها, أو لأم منتمية لها إذا لم يكن الأب معلوما, بل وصار موضع أو مكان العثور علي اللقيط الذي لا يعرف له أم أو أب صار هو العامل المفترض لديانة اللقيط تبعا للسائد في هذا الموضع أو المكان, أو تبعا لوجوده في محيط تسود فيه هذه الملة أو تلك. وبذلك كله انفتحت أبواب للانتماء للدين أو الملة, المؤسس أصلا علي النيات الصادقة, لعدم وجود مرآة للكشف عن البواطن والتفرقة بين النيات الطيبة والمقاصد الصافية, وبين السلبيين أو الانتهازيين أو خدام المصالح الشخصية وأصحاب الأغراض والأهواء.. ومع توالي الزمن تكاثر هؤلاء وتناسلوا, وصاروا باتساع رقعة المكان وتتابع الأجيال والعصور والقرون صاروا يشكلون أكثر هذه الملة أو تلك.. وعلي مدي تراكمات السنين غرق ذوو النيات الطيبة الصادقة في خضم هذه الكثرة الكاثرة, حتي لايكاد يسمع لهم صوت. وتسأل ونسأل معك.. هل انقطع تماما ونهائيا ذلك الحماس غير العادي المفعم بالإصرار وحسن النية وصدق القصد, وانقطع وجود ذوي النيات الطيبة الصادقين الذين يمكن أن يجتذبهم ذلك الحماس للتقدم والعطاء والإسهام في نهر الحياة؟! أم أن الملحوظ الذي نراه مجرد أزمة طالت فقط مدتها.. مرت وتمر بها الجماعات الكبيرة فتصيبها بفتور شامل مؤقت وإن شابه الانطفاء؟ أم هذا الفتور دائم قد محا نهائيا ذلك الحماس وبغير رجعة.. لأنه مقدمة لتطور جديد في حياة الإنسان, لا نري سوي بداياته المترددة التي لا تعرف طريقها؟! ربما ساورنا الشك أو زادت شكوكنا أو اعترانا اليأس إذا انحصرنا في الهدير الأعمي الذي يحيطنا من كل جانب, وهالنا خضم الأنباء التي بتنا غارقين فيها وكثرة نقل وتداول الأخبار عبر العالم كله في زماننا, وشغف عامة الناس بتلقفها هنا وهناك صباح مساء.. مقروءة ومسموعة ومرئية.. وغلبة ضخامة المصالح والتيارات والقوي السياسية والمالية التي وراء نشر أخبار معينة وبثها وإذاعتها علي أوسع نطاق, لاستخدام أثرها المقصود علي الترويج لها واستخدام الميول والأذواق والاشتهاءات والمخاوف لدي الجمهور بما يوافق أغراضها وخططها, وما صاحب ويصاحب ذلك من تحويل فضول الجمهور لكي يملأ بهذه الأغراض فراغه القليل المتبقي له في مساعيه للرزق, أو ملء الفراغ الكثير الذي تتسع دوائره مع اتساع البطالة والتعطل.. وربما ساهم في زيادة شكوكنا ويأسنا ما صار يحيط بنا من عشق الإنسان العصري للسرعة والعجلة في كل شيء, وتبرمه وضيقه الذي لا يكتم إبداءه بالتأني والتمهل والتريث والانتظار وترقب ملاءمة الوقت ومؤاتاة الفرصة وتهيأ أو أن الإنضاج أو تمام النضج! ولقائل أن يقول إن مركز الاتزان داخل الآدمي المتحضر قد انتقل وفارق تماما موضعه القديم في المائة عام الأخيرة.. ولم يستقر بعد في موضع معين جديد تلتف حوله عقائده ومصدقاته وترجع إليه نفسه في نهاية المطاف لتصويب خططه واتجاهاته.. ويمكن به أن يشتعل فيه ذلك الحماس غير العادي الذي يجتذب ذوي النيات الطيبة.. إذا وجدوا! لقد مرت قرون بين تخلخل مركز الاتزان في موضعه القديم, وبين مفارقته الكلية لذلك الموضع.. وهي قرون من الانطفاء الجزئي ومن اليقظة الجزئية.. في داخل وخارج الإنسان.. انطفاء في الروح ويقظة في المعرفة.. لم يتحقق ولم يمكن أن يتحقق باجتماعهما شيء خصب حي.. ولم يزود الآدميين برؤية شاملة سديدة لأنفسهم وعالمهم. بل أوقع عقلاءهم في الحيرة وأغرق عوامهم في السطحية والغفلة. نعم ظهرت هنا وهناك فقاقيع غير قليلة من رؤي ومواقف واتجاهات ومذاهب.. معظمها عودة الي الماضي القريب أو البعيد أو الي الماضي الموغل في القدم... ارتفع صوتها هذه الفقاقيع وانتشر صيتها, ولكن لفترة ثم طواها النسيان. وما كان لها إلا أن تنطمر لأنها حومت وطافت بالسطح, وخاضت في قضايا فكرية نظرية, فلم تبلغ أعماق الإنسان, ولم تمس منابعه ودفائنه التي تزوده بالطاقات النفسية لآماد. لم يفطن الآدمي الفرد حتي الآن إلي أن إرادته وحدها وعقله وحده, لا يكفيان لتغيير مصيره أو مصير محيطه.. وأن ذلك يستلزم أن يكون محيطه في حالة خاصة تجعله مستعدا لقبول هذا التغيير واعتناقه ولو بعد مقاومة تقصر أو تطول! وأن هذه الحالة ظرف لا غني عنه لاجتذاب وتشجيع ذوي النيات الطيبة الصادقة للانضمام إلي الحماس المستبسل الصادق للخروج من وهدة الحيرة والسلبية التي تراكمت أسبابها بمضي الزمن وتراكمات السنين, والمساهمة الفاعلة المؤثرة الراشدة في نهر الحياة.. بدون هذا الاستعداد لدي المحيط, وتكريسه ورعايته, لا تنفع سلطة ولا قوة أيا كانت في نهضة المجتمعات, لأن الإعراض الداخلي للمحيط يحول دون وصول التغيير الي أعماق الناس, ويجعل جميع المحاولات هشة متساقطة لا تصمد لمقتضيات وأسباب ودوافع وآمال الترقي الذي يرنو إليه العقلاء. ** نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية