لم أتصور أنه قد مضي كل ذلك الوقت علي أول زيارة قمت بها للهند. حتي ثار جدل حول عرض مسرحية باسم "أرض الميعاد" علي مسرح صغير في جنوب باريس. أقمت في قصر للمهراجا الشهير "حيدر آباد" في نيودلهي كان يستخدمه مكتبا له ومقرا يستقبل فيه ضيوفه في الأيام القليلة التي يضطر فيها للسفر إلي العاصمة الهندية.. ولقد أممته الحكومة علي يد السيدة أنديرا غاندي ولعلني كنت من أوائل من استضافتهم في القصر. بالغ الفخامة وسط حديقة ممتدة يحلو فيها الافطار كل صباح. لولا أنني وحدي في القصر الكبير. أحس بالرهبة عندما يقبل الليل ويندهشون إذ اطلب الانتقال إلي أي فندق تدب فيه الحياة. عندما حان موعد العودة سألوني ان كنت أرغب في البقاء يوما واحدا فالضيف القادم بعدي عربي له تقدير خاص.. وكم كنت أحب أن انتظر لألتقي بالأديب الصحفي الفلسطيني غسان كنفاني الذي كنت اقرأ له بحب واعجاب. ولكنني ارجأت هذا اللقاء لفرصة أخري. ولم نلتق إذ اغتيل غسان في لبنان بعد قليل وبقي عندي حنين خاص له.. وبقي هو وابداعه وفكره حيا لا يموت. هذه الأيام. يحاولون منع عرض مسرحية مأخوذة عن روايته "عائد إلي حيفا" لأن جمعية يهودية في فرنسا تري انه "إرهابي" مع ان تلك المسرحية التي تغير اسمها إلي "أرض الميعاد" قد سبق عرضها في أكثر من مكان ولكن يبدو أن إسرائيل والتابعين لها يشددون الحملة علي العرب وفلسطين بعد ارتفاع موجة اتهام المسلمين بالإرهاب في أمريكا وأوروبا. تروي قصة غسان كنفاني حكاية سعيد وصفية زوجان هربا من بلدتهما حيفا عند اجتياح العصابات الصهيونية للمدينة الفلسطينية عام 1948 بسبب الزحام والفوضي والخوف تركا طفلهما الرضيع في المدينة وغابا عشرين عاما في خيام اللاجئين.. فلما عادا وجدا ان منزلهما قد احتلته أسرة يهودية قادمة من بولندا. تبنت طفلهما حتي صار جنديا في الجيش الإسرائيلي! تذكرت الروائي والمناضل الفلسطيني وندمت إذ لم انتظره في دلهي حتي نلتقي.. لم أكن أعرف ان الإرهاب الصهيوني يتربص به. مثلما سقط رفاق له سطروا بالقلم والدم تاريخا مجيدا مؤلما يضيئون به طريق المستقبل لشعب تآمرت عليه قوي غاشمة وخذله أبناء العمومة اللاهون وخدعه قادة من أبنائه افسدتهم السلطة. لم يكن غسان كنفاني كاتبا موهوبا فقط وإنما شارك في الكفاح من أجل حرية شعبه. فلم يجلس في برج عاجي يراقب معاناة المعذبين في الأرض ويحظي بالتكريم ويحصل علي الجوائز ويعيش حياة منفصلة عن الواقع. مثله أشد خطرا يتربصون بهم ويقتلونهم.. لا يعرفون انهم أبدا لا يموتون!! *نقلا عن صحيفة الجمهورية