خصص الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي أحد أبرز المثقفين العرب مقاله الأسبوعي بجريدة الأهرام المصرية لمناقشة شأن رياضي هو مباراة مصر والجزائر والتداعيات التي نتجت عنها ومازلت تداعيات أخرى تتوالي. واشار حجازي في مقاله إلى تشابه الأسماء بينه وبين الناقد الرياضي إبراهيم حجازي، وقارن بين ما كان يجري في الدورات الأوليمبية وما يحدث في ملاعب الكرة الآن، و"غازل" جماهير الكرة بقوله أنهم أكبر بما لا يقاس من المهتمين بالشعر. وفيما يلي ما كتبه حجازي تحت عنوان "مصر بالجزائر والجزائر بمصر!" سأكتب هذه المرة عن الكورة وبالتحديد عن المباراة التي احتدمت يوم السبت الماضي بين فريقي مصر والجزائر، وقبلهما بين جمهور الكرة في البلدين، حتي بدا وكأن هذه اللعبة الساحرة قد انقلبت الي حرب طاحنة نسي فيها الطرفان المتحاربان انهما اخوان شقيقان، وأن مصر لا تكون كما تريد ان تكون إلا بالجزائر، وان الجزائر لا تكون إلا بمصر، ومن هذا المنطلق أكتب عن مباراة الأمس التي عرفنا نتيجتها ومباراة اليوم التي ننتظر نتيجتها هذا المساء. وبما أني أكتب ل"الأهرام" التي يكتب لها ناقد رياضي شهير يربطني به اكثر من سبب وهو الاستاذ ابراهيم حجازي، فمن واجبي ان انبه القراء الأعزاء المهتمين بالكرة، وهم أكبر بما لايقاس من المهتمين بالشعر، إلي ان كاتب هذه الكلمة حجازي آخر لايعرف عن كرة القدم إلا القليل الذي وصل الي دون ان ابذل أي مجهود. ولا شك في أن أي مواطن مصري بسيط يعرف عنها وعن فنون اللعب بها ومهارات اللاعبين واسمائهم وفرقهم وتواريخهم اكثر مما اعرف بكثير، ذلك لأنني كففت منذ وقت طويل عن مشاهدة مباريات الكرة، وربما- وليعذرني عشاقها- اصبحت سئ الظن في هذه الرياضة التي أراها تتجاوز المساحة التي تتفق مع حاجتنا إليها، وتطغي علي المساحات الأخري التي كان يجب ان نخصصها لبقية ما نحتاج إليه من نشاط. وحين أقارن بين اهتمامنا بالكرة واهتمامنا بالمشكلات التي نواجهها في تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية، وفي تنشيط الممارسة الديمقراطية وترشيدها وتوسيع نطاقها، والوقوف في وجه القوي والمصالح والتيارات المعادية للعقل والديمقراطية وحقوق الإنسان، حين أري اقبال الجماهير علي مشاهدة مباريات الكرة، وانخراطهم فيما يدور حولها من استعدادات ومناقشات وردود افعال، ومايظهر خلال ذلك من مبالغات جامحة وتعصب مقيت وعدم مبالاتهم في المقابل بالمشكلات المطروحة علينا، وعزوفهم عن مناقشتها والبحث عن حلول لها ألمس هذا الطغيان الذي أشرت اليه، ولا استطيع تفسيره واشك في دوافعه. واجد نفسي مضطرا للابتعاد عن هذه اللعبة الرائجة لأن الاهتمام بها تجاوز كل حد وطغي علي أي اهتمام آخر وطغي فيه الجانب الفج علي الجانب الناضج المتحضر. وكرة القدم كما يجب ان تكون والألعاب الرياضية كلها ليست مجرد نشاط عضلي، وليست مجرد جري وقفز وتمرير وتصويب وسعي لكسب السباق وإلحاق الهزيمة بالمنافسين، وانما الكرة والرياضة الي جانب ذلك وفوق ذلك مثل عليا وأخلاق رفيعة. الرياضة حياة ممتلئة مكتملة, فالعقل السليم في الجسم السليم والرياضة قوانين وقواعد يجب ان يعرفها ويلتزمها المهتمون بها، والرياضة اجتماع واحتفال وجمال ونبل وبطولة وتعارف وتفاهم وحوار وسلام. من هنا كانت الأعياد الأوليمبية في اليونان مسابقات شعرية ومسرحية من ناحية, ومسابقات رياضية من ناحية أخري. وفي الوقت الذي كان فيه الرياضيون يتبارون في العدو والمصارعة ورمي القرص والرمح كان الشعراء والمغنون والممثلون يتبارون فيما يقدمونه للإله ديو نيزوس من عروض تعبر عن موته في الشتاء وانبعاثه في الربيع. ومن هذه العروض ولد المسرح اليوناني وظهرت المأساة والملهاة. الرياضة إذن لا يمكن ان تكون بالبدن وحده، فليس بالبدن وحده يحيا الإنسان وانما يحيا بروحه وبدنه وعقله ومشاعره وعواطفه. ولهذا كانت الرياضة تربية. تربية بدنية يجب علي الدولة ان توفرها لمواطنيها دون ان تقصر في تربيتهم تربية وطنية يتعلمون فيها ان الولاء للوطن يكون بالعمل والانتاج، وليس بالصياح والهياج، وتربية عقلية يثقون فيها بأنفسهم ويعرفون ان الفوز في المباريات الرياضية وفي المشروعات الاقتصادية وفي الانتخابات البرلمانية وفي المعارك الحربية يتحقق بالتدريب وإعمال العقل وإحكام الخطط وليس بترديد الأدعية, فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ولا تخصص مقاعد للمحسوبين عليها في مجلس الشعب، ولاتعطي النصر لمن لا يستحقه. فضلا عن التربية الاخلاقية التي نتعلم فيها الشجاعة في قول الحق والصبر في المكاره والكرم مع الضيف, والعفو عند المقدرة. فإذا قصرت الدولة في اداء هذا الواجب وانحصر الاهتمام بكرة القدم وحدها فهذه تربية ناقصة لا تفسد بها الروح وحدها بل تفسد الروح والبدن, والثقافة والرياضة جميعا. وحين ينسي الجمهور القيمة والقانون ويطلق العنان لغرائزه يعجز عن رؤية الهدف والوصول اليه، ويفقد القدرة علي ضبط نفسه والتحكم في انفعالاته الي درجة الاندفاع في تحطيم كل شيء, في الربح وفي الخسارة, فالفرح الأعمي كالغضب الأعمي. ويكفي أن يظهر في الجمهور شخص مختل يثير الشغب ويوقظ الفتنة النائمة هنا أو هناك, في هذه العاصمة أو تلك ليتحول الجمهور الي قطعان متدفقة وتتحول المباراة الي مصارعة ثيران! ولقد أظهرنا في مباراة السبت الماضي كفاءة عالية بدنية وفنية واخلاقية وفزنا فوزا مبينا رد الينا الثقة، ودفعنا لمواصلة الطريق، غير ان الأمر لم يخل من تجاوزات حمقاء ربما اعتبرها البعض ردا علي تجاوزات سابقة تعرض لها المصريون في المباراة الأولي التي لعبها المصريون مع الجزائريين في الجزائر وخسروها. لكن التجاوز لا يبرر بالتجاوز، ونحن ننتصر بالتصرف النبيل والترفع علي الصغائر أكثر مما ننتصر بتسجيل الاهداف. والجمهور المصري الذي وقف الي جانب الجزائريين في حرب الاستقلال لا يمكن ان يكون خصما لهم في الرياضة، فليربح الجزائريون مباراة اليوم إذا اتيح لهم ان يربحوها وليقدموا الفوز هدية لنا إذا كنا نستحقه، وهم ونحن في الحالتين منتصران!