ويل للمريض في بلدنا.. أظن أنه لا أحد منا فقيراً كان أم غنياً يشعر بالأمان الصحي. بل ما نشعر به هو العكس تماماً. فرغم الأعداد الكبيرة والمتنامية من الأطباء الذين يتخرجون في كل عام.. فإن معظمهم - للأسف - يجهلون أصول المهنة.. ولا يتقنون فنونها ولا يراعون آدابها. فهم تخرجوا في "الزحمة" وحازوا شهاداتهم وتقديراتهم العالية بفعل الدروس الخصوصية التي تعاطوها بمعرفة كبار الاساتذة.. وكانت النتيجة مروعة.. لا تعليم.. ولا خبرة.. ولا تدريب.. ولذلك لا أندهش عندما أطالع صفحات الحوادث يومياً. وما ينشر بها من أخطاء الأطباء الجسيمة والقاتلة في حق المرضي الغلابة.. لكن الأكثر إدهاشاً أن يعترف وزير الصحة ومن قبله البرلمان وكل الأجهزة والجهات الرقابية بوجود الإهمال والقصور والفوضي في المستشفيات.. حكومية وجامعية واستثمارية.. الجميع يشهد ويقر بالمأساة ويتفرج عليها ولا يفعل شيئاً لتصحيح الأوضاع المعكوسة أو لتدارك الأخطاء الكارثية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. فهل يكتفون - كما هي العادة - بفتح ملفات تدني الخدمات الصحية دون وضع نهاية لها أو علاج أو إصلاح ويستمر الحال علي ما هو عليه.. وتتدني الخدمات أكثر وأكثر؟ * ما يؤسف له أن الفوضي طالت أضلع المثلث الثلاثة في الرعاية الصحية "الإدارة والأطباء والتمريض". فالمعاملة صارت غير آدمية للمواطنين في المستشفيات سواء من قبل الأطباء أو جهاز التمريض أو حتي الإداريين.. وفي كل بلاد العالم المتحضرة عندما تقع حادثة ينقل ضحاياها بأسرع ما يمكن لتلقي العلاج اللازم ويلقون شتي صنوف الرعاية الصحية فوراً ودون أن يسألهم أحد - كما هو الحال عندنا - عن هويتهم أو تكلفة العلاج وسبب الحادث وغيرها من الأسئلة. حتي وصل الأمر في بعض مستشفياتنا أن تحجز جثة المتوفي حتي يدفع ما عليه. وتلك لا شك استهانة بالغة بآدمية الإنسان. وفي ظل هذه الفوضي.. استشرت الأمراض الناجمة عن انتقال العدوي لعدم اتخاذ معظم مستشفياتنا التدابير الوقائية الواجبة التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية. وتحتمها الأعراف وتقاليد المهنة السامية والتي كانت رسالة راقية حتي أمد قريب.. أقول مطمئناً إنه يكاد لا يوجد قسم استقبال أو طوارئ حقيقي يمكنه إسعاف أو إنقاذ سريع لمن يلجأ إليه سواء الذي تعرض لحادث.. أو فاجأته أزمة قلبية أو ذبحة صدرية أو غيبوبة كبد أو سكر.. لسبب بسيط أن الطبيب المقيم في هذا القسم الحيوي مبتدئ ولا تسعفه خبرته المحدودة أو مهارته المعدومة أو علمه القليل للتعامل مع الحادث بالصورة الواجبة التي يفترض أنه تعلمها في كلية الطب!! وفي المقابل.. هناك ندرة في الموهوبين في هذا المجال. فعدد الأطباء المشهورين ذوي التخصصات الدقيقة في تناقص دائم دون وجود البديل الذي يسد فراغهم. ولذلك عندما نحتاج طبيباً في مثل هذا التخصص لا نجده حتي لو توفر المال اللازم.. وإذا وجدناه فإنه يتعامل مع المريض بعنجهية وغطرسة غير مقبولة تجرد المهنة من أهم سماتها "الرحمة". ويبدو أن كليات الطب لم تعد تدرس لطلابها كيفية التعامل الإنساني مع المريض - أي مريض - وتناسي القائمون عليها أن هذا وحده نصف العلاج.. ولا أبالغ إذا قلت إنه هو العلاج كله. لن أتحدث عن زيادة أعداد المرضي.. فالأرقام مرعبة ومخيفة.. وكلها تؤكد في النهاية أن صحة مصر في خطر وهو ما لا يمكن أبداً أن نطمئن معه علي المستقبل في ظل إصابة ملايين المصريين ومعظمهم من الشباب بأمراض فتاكة كالكبد "نحو 9 ملايين مصاب بالتهاب الكبد الوبائي" والقلب والسرطان.. وأغلب الإصابات - للأسف - نتيجة إهمال أفضي إلي انتقال العدوي من مريض إلي إنسان صحيح فأصبح هو الآخر مريضاً.. فهل يتدارك المسئولون البقية الناجية من آفة العدوي والإهمال؟! كنا نتصور إن الإهمال قدر أصاب فقط مستشفياتنا الحكومية التي تخطئها الميزانية العامة دائما وأبداً.. وتتجاهلها يد التطوير والتحديث. ولكنه انتقل بشكل لافت ومريب إلي المستشفيات الجامعية فأصبحت هي الأخري تئن وتتوجع من الإهمال.. ثم.. ثم لم تعد المستشفيات الخاصة أو الاستثمارية أفضل حالاً كما كانت في بدايتها.. فسرعان ما انتقلت إليها هي الأخري عدوي الإهمال والتسيب.. وكم من وفيات كثيرة يعلن عنها يومياً بسبب أخطاء الأطباء!! نحن أمام منظومة صحية "خربة" يرتع فيها الإهمال والفساد والاستخفاف بأرواح البشر وللأسف يتعامل معها وزراء الصحة - سواء الحالي أو السابق أو حتي اللاحق - بطريقة واحدة هي التنصل من المسئولية وإلقاؤها علي أكتاف الآخرين ويردد كل منهم العبارة نفسها "أنا وارث تركة ثقيلة.. والإمكانيات محدودة للغاية.. ولا يمكن أبداً أن تنصلح أحوال مستشفياتنا بين يوم وليلة" ولا يتردد أي من هؤلاء في أن يعترف بتردي الأوضاع وكأنه يريد أن يقول للمواطنين بوجه عام وللمرضي بوجه خاص "لا تنتظروا إصلاحاً. فالسلبيات سوف تستمر وتسود"!! * في يقيني أن الدولة سوف تخسر كثيراً إذا تركت ملف الصحة دون حسم.. فالمواطن - أي مواطن - يضيع نصف راتبه في العلاج وهذا بالطبع يأتي علي حساب أشياء أخري مهمة تسهم في بناء الإنسان وتقدم الوطن.. ايضا الإنسان المريض لا ينتج.. وهذا بلا شك يخصم من اقتصاد البلاد ويعيق تقدمها.. والأهم أن الدولة تتكبد أموالاً طائلة في علاج المرضي المتزايدين علي نفقتها.. والنتيجة النهائية خسارة هائلة للجميع.. ومن ثم فالحكومة - التي تهلل كثيراً لإنجازاتها - مطالبة بأن تعطي اهتماماً خاصاً بملف الصحة وطبعاً معه أو قبله التعليم.. فبدون ذلك لن تكون مصر آمنة صحياً.. ولن يطمئن المواطن - أي مواطن - علي حياته ومستقبله.. ومرة أخري ويل للمريض الذي يدخل المستشفي يوماً للعلاج من مرض أو أزمة صحية مفاجئة.. وسواء أكان المريض فقيراً أم غنياً. فالداخل دائما مفقود.. مفقود والخارج - إذا قدر له الخروج والنجاة - مولود.. بعدوي أو بعاهة مستديمة وربما سليماً معافي. وأسأل أخيراً: أين ثقافة الأطباء مما يحدث. ولم لا تعلن حالة واحدة عاقبت فيها طبيباً مخطئاً علي جرمه في حق المرضي والمهنة طبقاً للقانون واللائحة؟. ونسأل ايضا وزارة الصحة أو ما يسمي بإدارة العلاج الحر.. أين هي من جشع الأطباء وخصوصاً الكبار المشاهير؟. وأين هي من المستشفيات الخاصة التي تقدم أسوأ خدمة وتحصل علي أعلي أجر أو عائد؟. وماذا قدمت وزارة الصحة لتحسين أحوال الأطباء وتدريبهم وتزويدهم بكل ما هو جديد في عالم الطب حتي يتسني لها محاسبته إذا أخطأ؟. .. لا شك أن ما يحدث الآن هو تراكمات قادتنا إلي تدن وتراجع رهيبين في أحوالنا الصحية وسوء حالة مستشفياتنا التي أصبحت بؤراً لانتشار العدوي ونقل الأمراض أكثر منها واحات لعلاج المرضي.. رحمة بالناس يا وزارة الصحة ويا نقابة الأطباء ويا حكومتنا! * الجمهورية