"دانيال بارنبويم" قائد الأوركسترا الإسرائيلي - الذي يحمل أيضا الجنسية الفلسطينية – أثار الجدل في الشارع المصري وبين المثقفين ونواب مجلس الشعب المصري بعد الإعلان عن إحيائه حفلا بدار الأوبرا المصرية منتصف أبريل/ نيسان 2009، حيث يحضر إلى مصر بدعوة من السفارة النمساوية. وبينما اعترض الكثيرون على اعتلائه خشبة دار الأوبرا المصرية، باعتباره تطبيعا ثقافيا مع إسرائيل، اعتبر وزير الثقافة المصري "فاروق حسني" الموسيقار الإسرائيلي "بارنبويم" من المعتدلين والمؤيدين للسلام والداعمين للقضية الفلسطينية ضد المخططات الإسرائيلية، مشيرا إلى أنه يحمل جنسيات متعددة منحتها له عدد من دول العالم منها النمسا والأرجنتين، بالإضافة إلى الجنسية الفلسطينية. "بارنبويم" ولد في الأرجنتين عام 1942، في كنف عائلة يهودية مهاجرة من روسيا. درس العزف على البيانو قبل أن ينتقل مع أهله إلى إسرائيل عام 1951. موهبته الموسيقية أتاحت له تقديم حفلات عزف منفرد في أوروبا، وهو لم يتجاوز سنواته ال10. بدأ حياته الفنية عازفا للبيانو، وشارك في خماسي موسيقي. قدم أول عرض أمام الجماهير في بوينس آيرس في 1950. تعلم قيادة الأوركسترا، وفي عام 1952 حقق شهرة في هذا المجال في روما وذاع صيته في أنحاء أوروبا وأمريكا. أدى تسجيلات كثيرة لمبدعي الموسيقى، خاصة ل"بيتهوفن" و"موتسارت"، أما شهرته الأوسع فحققها عبر تسجيلات مرجعية لأعمال "ريتشارد فاجنر"، وقد تباين أداؤه لهذه الأعمال فمنها عزف منفرد على البيانو وأخرى بمرافقة الأوركسترا. في 1967، تزوج "دانيال بارنبويم" من عازفة التشيلو الإنجليزية "جاكلين دو بريه" التي توفيت عام 1987 وهي في قمّة عطائها - عن 42 عاما - بعد إصابتها بتصلّب الشرايين الذي أبعدها عن العزف منذ 1972. لم يكتف "بارنبويم" بقيادة الأوركسترا فقط، حيث عمل مدرسا في معهد موسيقى "كونسرفاتوار" في رام الله لتلاميذ فلسطينيين، وتبنى قضية السلام حتى صار مناضلا من أجل تحقيقه. وفي التسعينيات بدأ يوظف عمله الموسيقي لتقريب وجهات النظر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من خلال المشروع الذي أسسه عام 1999 مع صديقه المفكر الفلسطيني الراحل "إدوارد سعيد" - الذي نشأ في القاهرة قبل انتقاله إلى الولاياتالمتحدة - والذي تمثل في تأسيس فرقة موسيقية تضم الطرفين (الإسرائيلي والعربي) أطلق عليه أوركسترا "الديوان الشرقي الغربي". الفرقة بدأت أولى خطواتها بحفل أقامته في مدينة "ويمار" الألمانية. واشتهرت الأوركسترا بعزفها مقطوعات موسيقية كلاسيكية بمهارة متميزة. وتضم أوركسترا "الديوان الشرقي الغربي" 80 عازفاً فلسطينياً وإسرائيلياً تتراوح أعمارهم بين 13 26 عاما، فضلا عن موسيقيين من دول عربية مجاورة. في عام 2000 عين "دانيال بارنبويم" مديرا لأوبرا برلين، فضلا عن كونه مدير أوركسترا شيكاغو السيمفونية. وعلى هامش إحدى حفلات أوركسترا "الديوان الشرقي الغربي" في رام الله - التي نظمت برعاية وزارة الثقافة الفلسطينية" - في 2005 تكريما لذكرى "ادوارد سعيد"، صرح "بارنبويم" بأن "السياسيين يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل والأوركسترا تبحث عن السلاح الوحيد للبناء الشامل"، مؤكدا أن هدف الحفل إطلاق رسالة من أجل التضامن والتفاهم. صداقة "بارنبويم" و"سعيد" أسفرت أيضا عن إصدار كتاب مشترك بعنوان "نظائر ومفارقات" عام 2002. وهو عبارة عن حوارات موسيقية واجتماعية بين الموسيقي والمفكر، حول أوجه الاختلاف والشبه بين الموسيقى والأدب، وبين الأداء والجمهور، لتصل إلى مناقشة الأوضاع في الشرق الأوسط، حيث يركز الكتاب على فكرة وضع الهويات القومية جانبا لمصلحة انبثاق مفهوم أشمل يتخطاها. وكان "بارنبويم" قد أثار جدلا واسعا في إسرائيل جراء عزفه مقطوعات للمؤلف الموسيقي الألماني "ريتشارد فاجنر" في تل أبيب في 2001، رغم الحظر الذي تفرضه إسرائيل على موسيقى "فاجنر" بزعم تأثيرها في "أدولف هتلر". كما توترت العلاقة بين الموسيقار اليهودي والحكومة الإسرائيلية عندما امتنع عن إجراء مقابلة مع صحفية إسرائيلية لأنها كانت ترتدي الزي العسكري. وفي 2005، أعلن في القدس أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "آرييل شارون" لا يرحب ب"بارنبويم" في حفلاته الموسيقية. وطالب اليمين الإسرائيلي باعتقاله - وفقا لما نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" في عددها الصادر في 18 أغسطس/ آب 2005- لأنه يصر على خرق نظام منع التجول المفروض على المناطق الفلسطينية، وفي أحد المطاعم الإسرائيلية قذفه البعض بالطماطم موجهين له تهمة الخيانة، فواجهتهم زوجته "إيلينا" بمحتويات طبق السلطة التي كانت تتناولها. ومن أشهر مواقف "دانيال بارنبويم"، هجومه على سياسة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ومواصلة انتهاكها لحريات الشعب الفلسطيني، وذلك خلال تسلمه جائزة "وولف" في مبنى الكنيست الإسرائيلي، متسائلا "هل احتلال شعب آخر والسيطرة عليه يتلاءم مع وثيقة الاستقلال؟ وهل ثمة منطق لاستقلال شعب على حساب انتهاك الحريات الأساسية لشعب آخر؟" وفي مقابلة صحفية نشرتها مجلة "بروفيل" النمساوية، ندد "دانيال بارنبويم" بقرارات رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" الأحادية. ووصف تعامل إسرائيل مع النزاع الفلسطيني ب"السياسة الخاطئة"، وقال إن "أي شخص منطقي يعرف أن القرارات المفروضة من طرف واحد لا تأتي سوى بحلول قصيرة المدى". وأضاف أنه "لا يمكن أن نفرض على الفلسطينيين القبول بحق إسرائيل في الوجود، لكن يمكن مطالبتهم بالاعتراف بوجود إسرائيل". كما ينادي الموسيقار الإسرائيلي بأن يصبح 15 مايو/ آيار "يوم السلام" بدلا من احتفال الإسرائيليين وحدهم بما يطلقون عليه "يوم الاستقلال" بينما يحيي الفلسطينيون ذكرى "النكبة". حصل "دانيال بارنبويم" على ميدالية "ماندلسون" لجهوده في نشر التسامح والتقريب بين الشعوب. وفي كلمته أثناء تسلمه الميدالية، دعا إلى "خطة مارشال" جديدة تحت قيادة ألمانية لإعادة بناء البنية التحية المدمرة في قطاع غزة. وقال إنه يتعين على ألمانيا أن تتعلم "التعامل مع شعورها بالذنب" بشأن الهولوكوست بطريقة جديدة، وأن تعرض مساعدة اليهود ليصبحوا على علاقة طيبة مع الفلسطينيين. وأضاف أن هذا يعني إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتدمير المستوطنات غير القانونية على الأرض الفلسطينية وإنهاء كافة أشكال العنف، مشيرا إلى أن الحل الوحيد للنزاع في الشرق الأوسط هو "القبول المتبادل". يذكر أن "خطة مارشال" كانت مشروع مساعدات مالية أمريكيا بعد الحرب العالمية الثانية ساعد في إعادة بناء الدول الأوروبية التي دمرتها الحرب. وكان من المقرر أن يحيي الموسيقار الإسرائيلي وأوركسترا "الديوان الشرقي الغربي" حفلا في الأراضي الفلسطينية في يناير/ كانون الثاني 2009 - كجزء من رحلة عالمية - لكن الحفل أجل بسبب العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009. ولم تكن مصر هي الدولة العربية الأولى التي يثار فيها الجدل بشأن "دانيال بارنبويم"، حيث منع الأمن اللبناني تسجيلاته من دخول لبنان منذ ثلاثة أعوام، ثم تراجع عن قراره بعد أن أوضحت الصحافة اللبنانية موقف "بارنبويم" من السياسة الإسرائيلية والقضية الفلسطينية.