الاهرام:22/12/2008 هذا المقال سوف يثير غضب الكثير من القراء والزملاء, ومن تجارب سابقة في صحف أخري حيث يتاح للقراء التعليق علي مايكتبه الكتاب فإن اللعنات تأتي فورا لو جاءت إشارة بالمقال إلي أخبار طيبة هنا أو هناك, أما إذا تحدثت عن السعادة من قريب أو بعيد فإنك أي الكاتب الذي هو شخصي في هذه الحالة, فإنه سوف يتهم بالموالسة مع الحكومة والحزب الوطني الديمقراطي وذات مرة كنت متشائما نتيجة عوامل كثيرة فجاء المقال سوداويا بأكثر مما أنا معتاد فكانت التعليقات أولا غزيرة والأهم أنها ثانيا تناولت ماقلت بالمدح والوصف بالموضوعية والشجاعة لأنني تجاوزت مايقول به الحزب الوطني من أنباء وردية. ومرة أخري وعلي سبيل التجريب في الندوات العامة طرحت قائمة طويلة من المآسي القومية والوطنية فإذا بي أحصل من التصفيق علي مالم أحصل عليه أبدا في مرات سابقة حيث يكون رد الفعل عادة نوعا من الصمت العميق الذي ينم عن حيرة بأكثر مماينم عن رفض أو قبول. وحتي موعد ذهابي إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية للدراسات العليا لم أكن قد عرفت أن للسياسة علاقة بفكرة السعادة التي ظننت أنها سلعة فردية تماما تقع في الإطار السيكولوجي للانسان وحده واطاره الاجتماعي فماذنب المجتمع والدولة إذا كان هناك شخص تعس لأن زوجته لأسباب لانعرفها قامت بتحويل حياته إلي تعاسة دائمة أو مؤقتة حسب الأحوال من غيرة أو خلاف علي مصروف البيت أو لأن الرجل لا يقوم بواجباته الزوجية في أوقات مناسبة أو لايقوم بها علي الاطلاق ولكن عندما بدأت الدراسة في جامعة شمال إلينوي كان ضروريا أن أطلع علي أمور مهمة تخص الولاياتالمتحدة وفي مقدمتها إعلان الاستقلال الأمريكي الذي جاء فيه أن هذا الاستقلال يضمن لكل مواطن حقوقا لايمكن تجاوزها هي الحق في الحياة والحرية والسعي للسعادة أيامها استوقفتني الكلمة السعادة كثيرا حتي علمت أنها في السياق التاريخي الأمريكي كانت تعني حق الملكية وساعتها فقدت الكلمة كثيرا من رومانسيتها حتي بدأت في دراسة الكثير من الفلسفة السياسية وفي اطارها كانت هناك مقولة أو نظرية ليو ستراوس الفيلسوف السياسي المحافظ في جامعة شيكاغو علي ماذكر والذي قال ان جوهر الحياة السياسية هو البحث غير السعيد عن السعادة أو باللغة الانجليزيةTheJoylessPursuitofJoy بمعني أن الحكاية في الموضوع ليست السعادة مهما يكن معني ذلك وإنما عملية السعي من أجلها سواء كانت للأفراد أو المجتمعات وكان آخر ماعرفته عن السعادة كمفهوم منذ أسابيع عندما ذهبت إلي دبي للمشاركة في لقاء نظمه المنتدي الاقتصادي العالمي مع700 آخرين من علماء العالم, وحكمائه أيضا, للنقاش حول جدول الأعمال العالمي القائم وجاء نصيبي في لجنة تحاول وضع قائمة من العلامات أو المؤشرات الاجتماعية التي تقيس حالة المجتمعات وكانت هناك ثورة كبيرة من جانب الزملاء علي اعتبار متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي مؤشرا علي مدي تقدم المجتمعات باعتباره مؤشرا ناقصا ولا يدل علي تفاوت الثروة داخل المجتمع ولا عن مدي رضاء الناس عن الأوضاع البيئية والنفسية والاجتماعية التي يعيشون تحت ظلها. وكان واحد من المشاركين مصمما بحماس شديد علي ضرورة وضع مؤشر عن السعادة باعتبارها حالة أرقي بكثير من الحالة الاقتصادية للانسان. وبعد مناقشات مع الرجل وجدت أنه لم يصل بعد إلي التعريف السحري لمعني السعادة وإنما كان معناها مرتبطا بتعبير آخر هو درجة الرضا بالحال العام والخاص والتعايش معهما إذا جاز التعبير. ضمن هذا الاطار يمكن فهم نتائج الاستطلاع الأخير الذي قام به قسم بحوث وقياسات الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي استطلع فيه مدي سعادة المواطنين من خلال آراء عينة من المواطنين قدرها3562 وهي عينة بالمعايير الاحصائية لمن يعرف فنون وعلوم استطلاعات الرأي العام أكثر من كافية وكانت النتيجة هي أن43.2% من العينة قالوا انهم سعداء و46.8% قالوا انهم لا سعداء ولا تعساء بينما قال6.7% انهم تعساء. ولم يكن معني ذلك بالمرة أن هؤلاء المواطنين كانوا غائبين عن الوعي أو أنهم خضعوا لعملية من عمليات التنويم المغناطيسي وإنما عبروا من خلال الاجابة عن أسئلة أخري أنهم واعون تماما بالمشاكل التي تمر بها البلاد, ومن ثم فإنهم عددوا القضايا الكبري وهي وفق ترتيب أهميتها البطالة وارتفاع الأسعار وانخفاض مستوي التعليم وارتفاع تكلفة العلاج والزواج. فكيف والحال كذلك من مشكلات ومعضلات وقضايا يكون قدرا غير قليل من المصريين43% يشعرون بالسعادة بينما الأغلبية الساحقة إما أنها سعيدة أو أنها علي الأقل90% تقريبا غير تعسة. مثل هذه الأخبار لو عرضت علي الصحفيين المصريين أو في أجهزة الاعلام المصرية وهي في حدود علمي لم تعرض للاقت هجوما كبيرا وسوف يكون هناك من يرد علي ذلك بتعداد المآسي التي يتعرض لها المصريون من أول الاصابة بالتهاب الكبد الوبائي وحتي غرق الشباب علي سواحل ايطاليا والبعض الآخر سوف يتحدث عن فبركة البحث نفسه مدعيا وجود التلاعب في الأسئلة الموجهة والذي يجعلها متحيزة لبعض الاجابات التي تبيض وجه النظام والبعض الثالث سوف يلقي باللوم علي الشعب المصري نفسه باعتباره شعبا لا يحس ولايفقه ولديه اعتياد غير عادي علي القهر والذل والفقر والفاقة وثقافته السياسية تجعله يرضي عن الظلم والظروف الصعبة والاهانة والاستبداد والبعض الرابع سوف يركز علي دور الوعي في فهم الأسئلة والواقع الذي يترجم حالات الاخفاق القومي إلي تأثيرات مباشرة علي الناس. وهكذا توجهات وأسباب عديدة. ومن ناحيتي فإن هذه الاستطلاعات والأهم من ذلك أن هذا البحث ونتائجه يؤكد استطلاعات سابقة قام بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام خلال الفترة من عام1997 و2003 وكلها قالت إن هموم المصريين هي كما وردت في هذا الاستطلاع من ناحية وإن درجة الرضا أعلي مماتتوقع وتعتقد الطبقة السياسية والاعلامية في البلاد سواء كان ذلك علي مستوي الحاضر أو المستقبل القريب. فبرغم أن صياغة أسئلتنا في مركز الأهرام كانت مختلفة حيث تحدثنا عن التفاؤل والتشاؤم فيما يتعلق بالوضع الراهن وخلال السنة والسنوات التالية وعما إذا كان المواطن يعتقد أن أحواله سوف تتحسن أو تسوء وكانت إجابة الأغلبية إيجابية أو أنها تعتقد ببقاء الأحوال علي ماهي عليه. وبرغم أن ذلك لايدل علي الشعور بالسعادة أو الرضا بالمعني المباشر إلا أنها أيضا تعكس شعورا إيجابيا عن الأحوال أكبر بكثير مماتقدر الطبقة السياسية والاعلامية في البلاد. وكذلك كانت نتائج أبحاث اخري قام بها مركز المعلومات ودعم القرار في مجلس الوزراء ورغم اختلاف منهجياتها وأسئلتها فإن النتائج كانت متقاربة مع ماجاء في البحث الجديد. فما نحن بصدده وشائع بشدة في تعبيرات الطبقة السياسية في البلاد من مفكرين وقادة أحزاب سياسية هي أن البلاد تمر بأسوأ فترات تاريخها أو أنها لم تمر بمثل هذه الحالة من التردي من قبل وسواء كان القائل هو الأستاذ عبدالرحمن الأبنودي أو الدكتور أسامة الغزالي حرب أو الأستاذ عبدالحليم قنديل بالطبع أو كل قادة الاخوان المسلمين ومعهم الأستاذ إبراهيم عيسي فإن الحكم في النهاية واحد ويخص الشعب المصري كله وحالته التعيسة ولكن الحقيقة أن الشعب المصري كله هو نسب وشرائح وطبقات اجتماعية وريف وحضر ومهن وأعمار مختلفة ومن ثم فإن درجات الرضا لديهم لابد من اختلافها وتعددها. وعندما ينمو بلد بنسبة7% لثلاث سنوات ويحافظ علي معدلات للنمو الايجابي لأربع سنوات وتجري فيه استثمارات أجنبية بأكثر من30 مليار دولار وأكثر منها من الاستثمارات المحلية ويعيش الناس عصر المحمول في جيله الثالث فإنه من الأرجح ألا يكونوا تعساء ومن يعلم ربما يكونوا سعداء أيضا. المهم في هذه الحالة وأرجو ألا أخيب توقعات أحد, أنهم ليسوا جاهزين للثورة وإنما سوف يكونون جاهزين أكثر لمن يجعلهم أكثر سعادة, أو تكون السعادة من نصيب عدد أكبر منهم ومن البحوث التي قام بها مركز الأهرام فإن هذه النسب لاتبقي دائما علي حالها حيث أخذت هذه النسب الايجابية في التراجع بعد عام2002 بسبب حالة الانكماش التي مر بها الاقتصاد المصري في تلك الفترة وبالتالي فإن الحالة الحالية ربما تكون مواتية لمن يريد الحفاظ علي حالة النمو الاقتصادي ومعاكسة لمن يعجز عن الحفاظ عليه. وإذا كان هناك درس نتعلمه من بحث المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فهو أنه لايوجد توصيف دقيق متفق عليه للحالة المصرية وأن الأحكام الانطباعية هي الغالبة ولايمكن لذلك أن يحدث دون البحث العلمي بأشكاله المختلفة والبحث العلمي الذي يطرح علي الناس ولا يوضع داخل ملفات فوق أرفف مراكز البحوث ففي مثل هذه الحالة فإن هناك من الأسئلة المطروحة ماهو أكثر من الاجابات وربما يحتاج ذلك إذا ماشاء الله إلي مقالات أخري؟!