المصري اليوم: 20/ 10/ 2008 هناك شخصية حين تقرأ عنها تعكس أمامك مفهوما للزعامة والقيادة والحزم فى المواقف.. وحين تسمعها، يفرض عليك حضورها الثقة والتحدى، مع الإصرار الواضح على توضيح كل التساؤلات والحرص على الإجابة بصراحة وبشفافية منطقية، فهو يقدم الأمثلة والأدلة والبرهان من التاريخ والواقع الملموس. ولكن حين تقترب منه أكثر، تجد شخصية إنسانية هادئة جداً مثقفة ومتواضعة لأبعد الحدود، تخفى نقاط الضعف بداخلها عن الجميع.. يحمل الكثير من الجاذبية أو «الكاريزما» فى جمله القصيرة وتحليله الدقيق وجسده النحيل، مع قدرة واضحة على الجلد والتحمل وقدرة على التركيز.. كل ذلك كان أول انطباع فاجأنى به الدكتور سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، فى أول زيارة له إلى مصر.. فقد خرج من المعتقل عام 2005 بعد أن قضى أكثر من أحد عشر عاما فى حجرة لا تتجاوز ثلاثة أمتار تحت الأرض، لا يؤنس وحدته فيها سوى الصمت، ولا يرى سوى القليل من ضوء الشمس فقط، حين يسمح له، كما منع عنه الاتصال والزيارة من الجميع، باستثناء والديه وزوجته، الذين يسمح لهم تحت مراقبة شديدة للأحاديث، والكلمات التى تدور بينهم، فكل شىء ممنوع ومرفوض.. لأنه متهم بكل جرائم وأخطاء الحرب الأهلية، وعلق على عاتقه العديد من التهم لتصفية الحسابات، فقد تم الإعلان عن إلغاء حزب القوات اللبنانية وملاحقة الكثير من أعضائه، وقمع كل من ينتمى إليه.. وعن حقيقة هذه التهم والتجاوزات، يقول لى «سمير جعجع»: لقد كنت طالبا متفوقا فى السنة قبل النهائية فى كلية الطب بالجامعة الأمريكية، لا أعرف سوى الدراسة والالتزام، ولم أحمل سلاحا يوما، ولا أنتمى إلى العنف أو التناحر، ولكن خلال الإجازة الصيفية عدت إلى أهلى فى الجبل، وفى أول يوم وصلت وجدت أن الحرب الأهلية قد امتدت حتى باب منزل أسرتى، والجميع يهرول بالسلاح للدفاع، ووجدت نفسى أسارع بالانتماء لهم من باب الغريزة الوطنية والطائفية، فلا توجد اختيارات أخرى أمامنا فى ذلك الوقت سوى الحرب أو الموت. وحين تصاعدت الأمور أكثر، تطور معها القتال واشتدت معها النعرات الحزبية والطائفية فى جميع المناطق والأحياء.. المهم فى النهاية جنحت للسلم، حين تقرر فى مؤتمر الطائف عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان. ولكن الوصاية السورية، التى هيمنت علينا فى ذلك الوقت، كانت تخشى استمرارى السياسى، الذى يعرقل الكثير من مخططاتها، فتم اعتقالى.. ولكنى فى الحقيقة خرجت أكثر إصرارا والتزاما ببناء دولة لبنان والحفاظ على هويتها العربية وبناء مؤسساتها اللبنانية المستقلة.. وربما هذا ما يبرر له الموقف الجرىء، الذى قام به مؤخرا خلال خطابه التاريخى، الذى أبدى فيه مصارحة علنية وقدم الاعتذار الواضح لكل لبنان عن كل القرارات والأخطاء والتصرفات، التى أضرت بالبعض من هنا أو هناك.. فهذا الموقف يدل على وجود مراجعة دائمة لكل الفترة الماضية، والشعور بالخطأ وتأنيب الضمير، مما يدل على القوة لأن السياسى كما يملك عقلا مدبرا يفكر به، يملك أيضا ضمير يؤنبه ويؤرقه إذا أخطأ، وهى رسالة لكل إنسان، مهما كان قائدا أو زعيما أو حاكما فالمناصب والسلطة والمال قد تقتل الضمير أو تصيبه بغيبوبة، وهناك أيضا من يتملكهم الحقد بعد كل هذا التعذيب والظلم، ولكن سمير جعجع استطاع الترفع عن كل ذلك، واعتذر بشكل علنى، وتحالف مع مختلف القوى وتسامح معها. المهم تبنى نظرية لبنان الحر المستقل، ذات السيادة اللبنانية بعيدا عن المحاور الإقليمية، فهذا الرجل لا يفصح كثيرا عن أحلامه، ولكنه يحمل فى داخله أجندة، كاملة للوصول إلى بناء دولة لبنان بأقل الخسائر الممكنة، فقد اجتمع مع الرئيس مبارك لأول مرة وعرض عليه عدة ملفات، أهمها الاعتماد على خبرة مصر فى التفاوض، وشبكة علاقتها الدولية، وبالتالى يمكن المساهمة فى الضغط على إسرائيل للانسحاب من مزارع شبعا وإقناع سوريا بتوقيع الوثيقة المشتركة مع لبنان، التى تؤكد فيها لبنانية هذه المزارع لتدخل تحت أحكام القرار «425» مما يجبر إسرائيل على الانسحاب، ولا تستغل سوريا كورقة تفاوض، دائما يدفع فيها الثمن لبنان وحده.. كما أوضح للقيادة المصرية مدى القلق من انتشار الجيش السورى فى منطقة معينة على الحدود الشمالية للبنان، مما يعتبر إشارة لعودة النفوذ السورى، وضغطا نفسيا على هذه المناطق قبل مرحلة الانتخابات، للتأثير على النتائج. وهنا يختلف د. سمير جعجع عن الجنرال ميشيل عون، وهو منافسه الحالى، فى عدة أمور، أهمها أنه شخص أكثر هدوءا وتركيزا فى أهدافه السياسية، فهو لم يتغير فى استراتيجياته منذ أن بدأ العمل السياسى عكس ميشيل عون، الذى يفاجئنا كل يوم بتجاوزاته وخطاباته الثائرة التى لا تحمل سوى الانتقاد أحيانا أو السخرية، فنجد أمامنا اليوم زعيما مسيحيا يأتى إلى مصر ليؤكد عروبة مسيحيى لبنان خاصة، ولبنان كلية عموما، وفى اليوم نفسه نجد ميشيل عون يقوم بزيارة مطولة إلى إيران ويراهن على أن المحور السورى - الإيرانى هو الخلاص لمسيحيى لبنان، والجميع يتساءل هنا: ألم يسمع عون عن مذابح المسيحيين فى الموصل بالعراق، التى تسيطر عليه إيران؟! وهل هى زيارة منطقية فى هذا الوقت؟ وما هى النتائج المرجوة منها؟ فقد راهن عون من قبل على صدام واليوم يراهن على نجاد وإيران، فإلى أين يأخذ لبنان؟ ! وفى رأى أحد الخبثاء أن سمير جعجع لم يستفد من تحالفه فى الماضى مع الجنرال عون سوى أنه تعرف منه على مذاق فاكهة المانجو المصرية، فهو أول من قدمها له فى السبعينيات, وهو ما يفسر حرصه على تناولها فى كل اجتماع حضره فى مصر، ويبدو أن مصر ستستعيد دورها بزيارة زعماء لبنان لها كل أسبوع، فالأمس كان جعجع واليوم الزعيم الدرزى وليد جنبلاط.