المصرى اليوم: 26/7/2008 لا أعرف من هم - علي وجه التحديد - الذين طالبوا دار الإفتاء المصرية بإبداء الرأي حول مشروعية بيع الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل، وسألوها عما إذا كانت الأجور التي يتقاضاها المصريون المسلمون العاملون في الشركات التي تشترك في تصدير هذا الغاز حلالاً أم حراماً.. ولا أعرف هل تقدم هؤلاء إلي الدار مباشرة بسؤال مكتوب، أم ناشدوها علي صفحات الصحف ببيان أو مقال أن تبدي الرأي الشرعي في الموضوع. أغلب الظن أن الذين سألوا السؤال، هم بعض النشطاء السياسيين في مجال الدعوة لرفض كل شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل- تصوروا أن الحصول علي فتوي دينية بتحريم ذلك شرعاً يدعم وجهة نظرهم في المطالبة بإلغاء البروتوكول الذي تستند إليه الحكومة بتصدير الغاز لإسرائيل، ويشجع المسلمين العاملين في هذه الشركات علي ترك أعمالهم. وقد يكونون - وهو الأرجح - من المتعاطفين مع حكومة حركة حماس التي تركز في دعايتها علي التنديد بقرار تصدير الغاز المصري إلي إسرائيل وتستخدم ذلك كورقة للضغط علي الحكومة المصرية لكي تقوم بفتح معبر رفح وبذلك ينكسر الحصار المفروض علي إمارة غزة الإسلامية المستقلة وتنتهي العزلتان العربية والدولية ويقر الجميع بمشروعية الانقلاب الذي قسّم فلسطينالمحتلة إلي دولتين! أما المهم، فهو أن أمانة الفتوي بدار الإفتاء المصرية امتنعت عن الإجابة عن السؤال الأول التزاماً بالقاعدة الشرعية من قال : «لا أدري فقد أفتي»، وبنت موقفها علي أساس أن البيع في حد ذاته مشروع، ولكنه - فيما يتعلق بموضوع الغاز - ليس بيعاً مجردا، وأن الحكم علي مدي صوابه أو خطئه يرتبط بالموازنة بين مصالحه ومفاسده، ففي حين يري البعض أن المفاسد تغلب المصالح فإن آخرين يرون العكس ولأن دار الإفتاء لا تملك الوسيلة العلمية ولا الخبرة الفنية ولا المشاركة السياسية ولا الاقتصادية التي تمكنها من استجلاء الصورة، فليس باستطاعتها أن تفتي في الأمر ولذلك تقترح عرض تلك المسائل علي الحوار الوطني بين الحكومة من جهة والمعارضين لهذا الاتفاق من جهة أخري، مع الاستعانة بأهل الاختصاص في مثل هذه الأمور من الخبراء الاقتصاديين والمحللين السياسيين وعلماء القانون. باختصار ووضوح، قالت دار الإفتاء، ما قاله الرسول «صلي الله عليه وسلم» حين استشاروه يوماً في طريقة لتأبير النخل، فلما اقترح عليهم طريقة أسفرت بطبيعتها عن عدم إثمار النخل، عادوا إليه، فقال لهم : أنتم أعلم بشؤون دنياكم. ما أدهشني أن الذين طلبوا الفتوي هذه المرة، لم يطلبوا مثلها حين تم توقيع اتفاقية الكويز أو غيرها من المناسبات الأخري التي تتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل علي الصعيد الرسمي. ومع أنني ممن يرفضون - منذ عام 1979- تطبيع العلاقات مع إسرائيل علي الصعيد الشعبي، ويطالبون بإبقاء التطبيع الرسمي في أضيق نطاق، ويستنكرون علاقات التطبيع المجانية التي تقوم بها دول عربية، لا ترتبط بمعاهدات مع إسرائيل تلزمها بهذا التطبيع ومع أنني أعترض علي تصدير الغاز لإسرائيل إن لم يكن لحاجة مصر إليه لتنمية صناعاتها فلما أثير عن الأسعار التفضيلية البخسة التي تشتريه بها، فضلاً عن أنني أري أن ذلك وغيره من أشكال التطبيع، ينبغي أن يظل مشروطاً - علي الأقل - بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة وبإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، إلا أنني لا أجد - مع ذلك كله - مبرراً للسعي لاستصدار فتوي دينية بتحريم ذلك، لأن المسألة سياسية دنيوية وليست دينية شرعية، ولأن مناط تقدير الربح والخسارة والصواب والخطأ فيها، يعود إلي اجتهادات تتعلق بشؤون الدنيا، مما لا يجوز لنا أن نقحم الدين فيها، فنسيء إليه.. ونسيء إلي أنفسنا. في مجري الصراع العربي الإسرائيلي الطويل، صدرت عشرات الفتاوي الدينية المتناقضة، حض بعضها علي إجلاء اليهود من فلسطين، وإلي محاربتهم حتي يصرخ الحجر: ورائي يهودي فاقتلوه.. ورحب بعضها بتوقيع معاهدة سلام معهم، واستشهد بعضها بغزوة خيبر، واستشهد آخرون بصلح الحديبية، مع أن الصراع في الأصل ليس صراعاً بين الإسلام واليهودية، وليس صراعاً بين المسلمين واليهود، ولكنه صراع وطني وقومي، بين العرب والصهاينة. بيان دار الإفتاء درس في الدين والسياسة لبعض المشتغلين بالعمل العام، الذين يصرون علي إقحام الدين في كل أمر سياسي، ويسعون للحصول علي فتوي دينية لكي يضفوا القداسة علي آرائهم.. وهي اجتهادات بشرية قد تخطئ، وقد تصيب، وقد تفيد، وقد تضر من دون أن يتنبهوا إلي أنهم بذلك يسيئون للدين نفسه، ويشيعون نمطا من الشخصية الإسلامية، أصبحت عاجزة عن أن تفكر في شيء أو تتخذ أي قرار من دون الحصول علي فتوي شرعية حتي أصبحنا في حاجة إلي «مفتي» لكل مواطن! ولهؤلاء قال بيان دار الإفتاء، إن محاولة استخدام الدار في السياسة الحزبية واستغلالها كأداة للمخاصمة بين الأطراف السياسية، أمر غير سديد، وهو تعبير بالغ الرقة، إذ الصحيح أنه ضرب من ضروب النصب!