كادت «أزمة الرغيف» التي سارع المسؤولون السياسيون والنقابيون اللبنانيون الى حلها، ولو مرحلياً في نهاية الأسبوع الماضي، أن تؤجج نيرانأ لكل الأزمات المشتعلة أصلاً في لبنان. بيد أن «وحش الغلاء» لا يزال فاغراً فكيه على الفقراء في هذا البلد الصغير من العالم العربي. منذ انهيار الليرة اللبنانية خلال سنوات الحرب ،حين استقر الدولار الأميركي الواحد على سعر 1500 ليرة لبنانية ، بعدما كان يساوي حتى عام1984أقل من خمس ليرات، لجأ اللبنانيون الذين اعتادوا حياة الرخاء، الى الدولار الأميركي الذي صار يشكل الآن أكثر من 70 في المئة من مدخراتهم. لكنهم يشعرون اليوم أن هذه الخطوة تذهب هباء مع هبوط سعر صرف العملة الخضراء الى مستويات قياسية أمام العملات الصعبة الأخرى في الأسواق العالمية. وعادوا يعانون فراغ جيوبهم من المال في ظل الارتفاع المحموم لأسعار النفط والحبوب في العالم. لم تكن «أزمة الرغيف» خلال الأسبوع الماضي إلا بمثابة «جرس إنذار» لاستفحال موجة الغلاء التي تعصف في بلد وضع نفسه في «عين العاصفة» خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وهكذا كادت «لقمة العيش» تغيب عن موائد الكرام في بيوت اللبنانيين. وفي بلد «يسيس» (من سياسة) فيه كل شيء حتى «لقمة العيش»، بدا الرغيف وكأن له لونه الطائفي والمذهبي والسياسي، على غرار ما أصبحت عليه صفيحة البنزين أو المازوت، ناهيك عن أزمة الكهرباء التي تلقي بعتمتها الثقيلة على غالبية المناطق اللبنانية ولو بنسب متفاوتة، من دون إغفال واقع أزمة المياه على رغم نعم السماء على لبنان، ومعها تسعيرة «السرفيس» في سيارات الأجرة، فضلاً عن ارتفاع أسعار المئات من السلع الاستهلاكية الأساسية. وضربت موجة الغلاء والتضخم كل الخدمات الحياتية والخدماتية في البلاد، وأدت الى تراجع القدرة الشرائية للمجتمع اللبناني وأصحاب الدخل المحدود بما يوازي 25 الى 30 في المئة خلال عام 2007 والفصل الأول من عام 2008. حيث طاول التضخم اجور النقل بنسبة 25 في المئة، وبدلات الخدمات من اشتراكات مولدات الكهرباء نتيجة تزايد التقنين لعجز كهرباء لبنان عن تأمين التيار بصورة متواصلة عن بيوت اللبنانيين ومؤسساتهم. أدت الأزمات السياسية والصدامات المسلحة المتلاحقة على الأراضي اللبنانية، الى انفلات «وحش الغلاء» من عقاله، متظللاً بموسم العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية والشائعات والمخاوف والمكائد. وطالت موجة ارتفاع الأسعار رغيف الخبز أخيراً، بعدما قرر اتحاد نقابات المخابز والأفران زيادة سعر ربطة الخبز العربي 500 ليرة، مع زيادة وزنها 130 غراماً، بحيث يصبح وزنها الإجمالي 1250 غراماً بسعر ألفي ليرة لبنانية، متذرعة «بارتفاع كلفة الإنتاج، ولا سيما المازوت»، أي أن السعر ارتفع فعلياً بنسبة 40 .19 في المئة، وهي أعلى بكثير من نسبة ارتفاع الأكلاف الثانوية (مازوت، خميرة، نايلون وأجور) التي يتذرع بها أصحاب الأفران لإمرار هذه الزيادة. وجاءت خطوة زيادة سعر الخبز أيضاً، بعدما تكبد المجتمع اللبناني أكثر من 27 مليون دولار، منذ أغسطس العام الماضي وحتى اليوم، على دعم القمح المخصص لصناعة الخبز العربي، وهو دعم «توزيعي - سياسي» استفاد منه «كارتيل» المطاحن والأفران باعترافات متكررة من وزير الاقتصاد والتجارة سامي حداد، الذي سارع الى القول أمس إن هذا القرار غير قانوني، معلناً أن الوزارة ستقوم بضبط المخالفات ومنع دعم القمح عن الأفران المخالفة. وقال إن الوزارة ستقوم بكل الإجراءات لحماية ذوي الدخل المحدود. حيث سيخفض سعر طن الطحين المدعوم المباع للأفران من 480 ألف ليرة الى 375 ألف ليرة لتغطية ارتفاع سعر المازوت من أغسطس2007 حتى يونيو 2008، رافضاً بالتالي زيادة حجم الدعم أكثر لأصحاب الأفران الذين «لا يشبعون». ورد الأمين العام للاتحاد نقابات المخابز والأفران أنيس بشارة أن «أي محضر ضبط تحرره مديرية حماية المستهلك في حق أي فرن مخالف للتسعيرة الرسمية، وأي وقف لدعم أي فرن، سيواجه مباشرة بإضراب شامل للأفران على الأراضي اللبنانية». وكانت وزارة الاقتصاد والتجارة تدعم طن القمح ب 260 دولاراً عندما كان سعره العالمي 520 دولاراً، ومع انخفاض السعر الى 330 دولاراً، أبقت الوزارة على قيمة الدعم نفسها (260 دولاراً) بحيث وفر انخفاض الأسعار على الخزينة اللبنانية 190 دولاراً على كل طن، إلا أن أطماع «الكارتيل» أصبحت تتركز على سبل الانتفاع من هذا الفارق. وبعد مفاوضات طويلة بين رموز «الكارتيل» ووزير الاقتصاد، استجاب الأخير جزئياً للمطالب المرفوعة اليه، وأعلن زيادة الدعم بقيمة 105 آلاف ليرة على كل طن طحين، بدءاً من أول يوليو المقبل، ولكن هذا المبلغ لم يرض «الكارتيل» الذي أصر على زيادة قيمة الدعم بقيمة 225 ألف ليرة، أي أكثر ب 120 ألف ليرة من الزيادة المقررة. أما رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن، فهدّد بالنزول الى الشارع للاعتراض على زيادة سعر الخبز، محملاً الحكومة ووزير الاقتصاد والتجارة المسؤولية الكاملة، داعياً حداد الى حرمان أي فرن لا يلتزم بالتسعيرة الرسمية ووزن الربطة من الدعم المالي. ورأى رئيس جمعية المستهلك زهير برو، أن رفع سعر ربطة الخبز بالشكل الرخيص الذي اتخذه اتحاد نقابات الأفران «غير مقبول، وأن انتهاز وضع الحكومة المتذبذب في مرحلة تصريف الأعمال سييء جداً. واستغرب استعجال اتحاد الأفران اقرار رفع سعر الربطة، على رغم «الكرم» الذي أبداه حداد في بذخه على الأفران والمطاحن بكميات الطحين المدعوم، وقال إن اتحاد الأفران يكرر ما فعلته نقابات السائقين العموميين من رفع لتعرفة النقل على حساب الفقراء من دون الأخذ بالاعتبار مصالح الناس ومشاكلهم. على رغم الحل الذي قدمته وزارة الاقتصاد والتجارة، وموافقة اتحاد نقابات أصحاب الأفران عليه، اعتبر رئيس الإتحاد كاظم ابراهيم أن «خفض سعر طن الطحين من 400 الف ليرة لبنانية الى 330 ألفا ليس كل حقوقنا إنما جزء يسير لكي نستمر. وهذا ما حصل». في الحياة اليومية للبنانيين، لم تكن «أزمة الرغيف» إلا عينة واحدة من عينات أزمات كثيرة، كلها أهم من السياسة في عيون اللبنانيين. إضاءة بلغت الزيادات المتراكمة في سنة واحدة على سعر صفيحة البنزين 42 .43 في المئة. أما سعر صفيحة المازوت فازداد في الفترة نفسها بنسبة92 في المئة، ما ساهم بزيادة كلفة الاشتراك في مولدات الكهرباء الخاصة بنسبة مئة في المئة. فضلاً عن الآثار السلبية الواسعة على أكلاف المزارعين والصناعيين وسائر المنتجين. بالإضافة الى المؤشر الأساسي، إذ تجاوز المعدل التراكمي لارتفاع الأسعار نسبة 75 في المئة منذ عام 1996 وحتى اليوم، أي منذ آخر تصحيح للأجور، وتحديد الحد الأدنى ب 300 ألف ليرة.