الحياة 3/7/2008 في تجربة كتابية تتسم بحميمية وطنية وإخلاص قومي وحسن أخلاقي يقدم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر أطروحة فكرية ثقافية سياسية ذات جدليات متعددة متشابكة في كتابه «قيمنا المعرضة للخطر... أزمة أميركا الأخلاقية» الصادرة حديثاً في ترجمة عربية عن دار «العبيكان» في الرياض. الكتاب وقفة تستهدف تشريح الذات الأميركية المعاصرة واستقصاء قصورها خلال ما تبدى من ملامح طمس القيم الأميركية باعتبارها تعايش حال ضبابية تستدعي كشف العورات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية عبر ثورة تصحيحية نحو مسار الأمن والأمان. وكان المدخل المنطقي للحوارية الجادة مع قضية «قيمنا المعرضة للخطر... أزمة أميركا الأخلاقية» هو ذلك التساؤل الموضوعي في البحث عن العوامل التي ولدت الكثير من التحولات عن القيم التقليدية لأميركا. يستعرض كارتر جانباً من المشاكل التي صارت محكاً عملياً لمدى التحولات التي ربما تتناقض مع منظومة القيم الأميركية الأصيلة المتعلقة بحقوق النساء والإجهاض والطلاق والشذوذ والعلم وفصل الدين عن السياسة والحريات المدنية وسياسات أميركا الخارجية في صورتها الكونية وتهديد الإرهاب والانتشار النووي، وقضايا البيئة والعدالة. وينتهي الى اعتماد أهم تلك العوامل المؤثرة في تحول الطابع القيمي الأميركي، وهو رد الفعل على الهجوم الإرهابي على أميركا إذ حقق مفهوم أن أميركا تصون المعايير الأخلاقية والسلوكية دافعاً الى دور قيادي كوني في محاربة الإرهاب، وهو ما تبنته حركة المحافظين الجدد الرامية الى ممارسة الهيمنة الأميركية من طريق سياسات أحادية الجانب أوصلتها الى الحضيض وحجبت عنها ثقة الدول والشعوب الأخرى. من ثم هددت السياسة الأميركية الاتفاقات الدولية، وكان أكثر الأمور إزعاجاً التبني غير المسبوق لسياسة الحرب الاستباقية وهذا في ذاته ليس تحولاً جذرياً فقط عن السياسات التاريخية للولايات المتحدة، بل هو انتهاك أيضاً للقوانين الدولية التي سبق التعهد باحترامها، وبلغ الأمر بالسياسة الأميركية أن تسهم إسهاماً مباشراً في تآكل حماية حقوق الإنسان وذلك لتشجيعها بعض الحكومات على تبني سياسات تراجعية في مكافحة الإرهاب، فضلاً عن أن الإساءة الى السجناء والمعتقلين تؤذي قضية أميركا في الحرب على الإرهاب وتعرض للخطر في الآن ذاته أعضاء القوات المسلحة الأميركية الذين قد يأسرهم العدو، ويكفي القول إن حكومة الولاياتالمتحدة بالغت كثيراً في رد الفعل إزاء قيامها باحتجاز ألف ومئتي رجل بريء في أنحاء أميركا ولم يسبق لأحد من هؤلاء أن أدين مطلقاً بأي جريمة لها علاقة بالإرهاب، بل انهم لم يعطوا الحق في سماع التهم الموجهة إليهم أو حتى تلقيهم المشورة القانونية، وهم كلهم عرب ومسلمون... وهذا لعنة للقيم التي تمسك بها الأميركيون بصفتها قيماً عزيزة. ويخلص كارتر الى سؤال مستفز: هل خفضت الحرب العراقية من التهديدات الإرهابية؟ بالطبع لا، فهناك أدلة مباشرة على أن هذه الحرب زادت تلك التهديدات بل «امتد الأمر الى أن فقدنا ذلك التعاطف والمساندة التي عرضت علينا من جميع الدول بعد أحداث أيلول (سبتمبر) ويرتبط بكل ذلك الزيادة المطردة في عدد الحوادث الإرهابية عاماً بعد عام». مشهد لنيويورك، وفي الاطار جيمي كارتر يطرح «كارتر» مجموعة من التساؤلات على غرار: ما هي افضل ردودنا؟ أمن الأفضل أن نعتز بدورنا التاريخي باعتبارنا الحامي العظيم للحقوق الإنسانية؟ أم أن تتخلى عن معاييرنا المحلية والدولية في الرد على التهديدات؟ أمن الأفضل أن تقيم مثالاً حازماً في خفض الاعتماد على الأسلحة النووية والمزيد من انتشارها أم أن نصرّ على حقنا في استبقاء ترساناتنا وتوسيعها ونعمد الى إلغاء اتفاقات السيطرة على التسليح التي جرى التفاوض عليها طوال عقود أو الانتقاص منها؟ أنَحصل على أفضل خدمة بتبني السلام بصفته أسبقية قومية ما لم يكن أمننا مهدداً تهديداً مباشراً، أم بإعلان حق كامل بمهاجمة الأمم الأخرى أحادياً لتغيير نظام حكم كريه أو لأغراض أخرى؟ هل التصريح بالقول: إما معنا وإما علينا، أفضل التصريحات؟ أيكون من الأفضل أن نسمح بالمفاوضات المباشرة لحل المشكلات أم أن نعتبر أولئك الذين يختلفون معنا منبوذين دولياً؟ الأغنياء والفقراء وينهي كارتر تساؤلاته بسؤال الأسئلة: ما هو أكبر تحد للعالم في الألفية الجديدة؟ مجيباً بأنه الصدع المتزايد بين الأغنياء والفقراء، فمشاركة الثروة مع أولئك الذين يتضورون جوعاً ويعانون معاناة لا ضرورة لها هي مقياس القيم الأخلاقية للأمم، والأميركيون راغبون في أن يكونوا كرماء في مساعدة الآخرين «وهم يعتقدون أن حكومتنا تعطي ما يصل الى نحو خمسة عشر في المئة من ميزانيتنا في شكل إعانة أجنبية، لكننا في الحقيقة أبخل أمة من الأمم الصناعية كلها، إذ نخصص بحدود واحد من ثلاثين من القدر الذي يعتقد أنه مخصص عموماً، ودخلنا القومي يبلغ نحو أحد عشر تريليون دولار نتقاسم منها مع الأمم الفقيرة نحو ستة عشر سنتاً مع كل مئة دولار من الدخل القومي!!». ويختتم كارتر سطور أطروحته بكلمات تحمل عمق الصدقية والمكاشفة والتهافت نحو عودة الأمة للإمساك بالهوية وما ضمت من قيم سامية تستطيع أن تحقق الأحلام المعقولة «إذا قامت على النحو الصحيح باستغلال القيم المفيدة لإيماننا الديني ولمثلنا العليا التاريخية المتصلة بالسلام وبالحرية الاقتصادية والسياسية وبالديموقراطية وبحقوق الإنسان، وبصفة عامة يرتبط صلاح الإمبراطورية باستعادتنا للثقة والإعجاب وللصداقة التي كانت تتمتع بها بين الشعوب، ويستطيع الأميركيون أن يتوحدوا في الوطن في إطار التزام مشترك لإحياء وتنمية القيم السياسية والأخلاقية التي اعتنقناها وكافحنا من أجلها طوال نحو مئتين وثلاثين سنة هو عمر الإمبراطورية!!». إنها صيحات الخلاص التي يمكن أن تطلق الإمبراطورية الأميركية من أسرها. المزيد من الأقلام والآراء