منذ أن تولت إدارة بوش الحكم وأنا أجد أن تخصصي في السياسة الأمريكية قد صار عبئا صحيا، فبحكم التخصص أنا مضطرة اضطرارا للاطلاع بانتظام علي ما يصدر عن الإدارة في السياسة الداخلية والخارجية علي السواء، وهو أمر يعرض المواظب عليه لأمراض عضال من ارتفاع ضغط الدم إلي أمراض القلب وخلافه، فمع إدارات أمريكية سابقة، كنت تتفق وتختلف مع ما يقولون، ولكنك في النهاية تجد في هذه السياسة أو تلك منطقا ما يحترم العقول. أما هذه الإدارة فهي معادية للفكر أصلا وكارهة للتاريخ وتتسم بتركيبة فريدة تجمع بين الغطرسة والأيديولوجيا ولا شيء آخر. وقد استعنت كالعادة بالإسبرين لمتابعة خطابي بوش في الكنيست وشرم الشيخ وقررت لدواع صحية أن أقنع نفسي أن الأمر ليس جادا، وأنني بصدد مشاهدة حلقتين في مسلسل من مسلسلات الكوميديا السوداء. فأنت تقرأ خطاب بوش في الكنيست فتتصور أن الرئيس الأمريكي يتحدث عن منطقة أخري من العالم لا يوجد فيها سوي إسرائيل التي أمعن في مدحها مدحا لا نسمعه سوي في الأناشيد الوطنية. فهي دولة بريئة تماما تعيش في منطقة ليس فيها أصلا شعب فلسطيني يعاني انتهاك حقوقه المشروعة فضلا عن استلاب أرضه. بل هي منطقة غاب عنها العرب تماما بمن فيهم حلفاء أمريكا الذين لم يذكر بوش في خطابة سوي أسماء بعض عواصمهم متمنيا لها التحرر من حكامها بعد ستين عاما. ويمكنك أيضا أن تقرأ خطاب بوش في شرم الشيخ فتتصور أنه يتحدث عن منطقة ثانية من العالم لا يوجد بها احتلال إسرائيلي ولا أمريكي بالمناسبة، ولكن يوجد بها هذه المرة عرب يحتاجون لمحاضرة طويلة في أصول الإصلاح الاقتصادي والسياسي. ومن باب القفشات الكوميدية، فإن الذي يلقي علي العرب محاضرات في الاقتصاد هو نفسه الرئيس الذي حول الفائض في ميزانية بلاده إلي عجز مذهل صار بسببه 80 % من الأمريكيين يرون أن بلادهم تسير في الطريق الخطأ. والإدارة التي صدعت رؤوسنا بالإصلاح الديمقراطي في المنطقة هي ذاتها التي شهدت في عهدها الحريات المدنية في أمريكا انحسارا غير مسبوق بشهادة المنظمات الحقوقية الأمريكية. والرئيس الأمريكي بعد أن ألقي خطبته العصماء عن تلك النظم العربية الديكتاتورية «الوحشة» طلب منها هي نفسها أن تستمر في مساعدته علي تنفيذ سياسة المحاور في المنطقة. وهي السياسة التي اعتمدتها إدارته منذ 2006 لتحقق من خلالها عبر الدبلوماسية ماعجزت عن تحقيقه عبر القوة الغاشمة. أطرف مافي الأمر هو حكاية الستين سنة التي كررها بوش في الخطابين، والتي يبشرنا بعدها بميلاد شرق أوسط جديد يعيش فيه الكل في التبات والنبات. لماذا ستون عاما وليس حتي ربع قرن؟ إلا إذا كان الرئيس الأمريكي يريد أن يضمن أن كل من استمعوا للخطابين قد رحلوا أو بلغوا من العمر أرذله!