أكثر من ربع الشعب اللبناني هم سكان (مدن الصفيح)، والمقصود هنا الفقراء، الذين يتخذون من الصفيح سقفاً لمنازلهم. فتجيب أحدث الدراسات الاجتماعية أن 28.5% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. هذا يعني أن الفقر قد يشكل في المستقبل القريب مصدر تهديد للأمن الاجتماعي في لبنان وتالياً للاستقرار السياسي على اعتبار أن العنف، كما يعتقد الكثيرون، مرتبط بالفقر وملازم له. الى أي حد يشكل الفقر بيئة خصبة للعنف? وهل بالضرورة أن يكون الفقر هو مصدر السلوك العنفي? سكان الصفيح الى ازدياد قبل الدخول في علاقة الفقر بالعنف لا بد من الاضاءة على الواقع الاجتماعي في لبنان. لقد بينت أحدث دراسة أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع برنامج الأممالمتحدة الانمائي (UNDP)، أن 300 ألف لبناني يعيشون بأقل من 2.4 دولار يومياً، أي بأقل من 75 دولاراً شهرياً. وهؤلاء يشكلون 8.4% من مجمل الشعب اللبناني. هذا قبل موجة الغلاء الأخيرة التي أخذت في صعودها كل المجالات. بحسب الدراسة فإن ثلث اللبنانيين يعيشون بدخل يتراوح ما بين 650 و800 دولار. وهناك حدان للفقر في لبنان أعلى وأدنى، الحد الأعلى وهو الخط الذي يعيش أسفله 28% من اللبنانيين بمدخول شهري يقل عن 650 دولاراً. أما الحد الأدنى فهو ذلك الذي ينخفض فيه المدخول الشهري الى ما دون 350 دولاراً. وتعيش 70 ألف أسرة تحت هذا الخط. الدراسة أظهرت كذلك ارتفاع نسب الأسر المحرومة في الشمال من 43% الى 52%، في الجنوب من 36 الى 37%، وفي جزين من 4.8 الى 6.5%. في تقرير صدر نهاية العام 2007 عن منظمة (Social Watch) غير الحكومية، والتي تقوم بإجراء المقارنة بين البلدان وتصنيفها وفق تقدم التنمية الاجتماعية لديها استناداً الى وضعية المجتمعات وعلاقتها بعدد من القدرات الأساسية الدنيا، صنف لبنان في المرتبة 57 من ضمن 161 بلداً تناولها التقرير. وحل في المرتبة السادسة بين 16 بلداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.التقرير المذكور راقب ثلاثة عوامل هي: مستوى الفقر، التأمين الصحي وبرامج التقاعد. على صعيد الفقر، أشار التقرير الى أنه على الرغم من أن لبنان هو بلد متوسط الدخل، الا ان ربع سكانه فقراء، في حين أن 5% من السكان يعانون فقراً مدقعاً. وفي ما خص التأمين الصحي، يتبين ان نصف السكان (53.3%) لا يشملهم التأمين. أما 23.4% من جميع المقيمين يحصلون على تغطية من الضمان الاجتماعي، و9% يستفيدون من تغطية الخدمات الصحية التي يقدمها الجيش وقوى الامن الداخلي، و4.3% يستفيدون من تغطية تعاونيات القطاع العام. أما 2.6% من المقيمين يستفيدون من تغطية على حسابهم، و2.2% يحصلون على تأمين خاص عبر مؤسسة أو نقابة. 1.7% من المقيمين مسجلون في برامج تأمين خاصة على حساب رب العمل، بينما 1.7% يحصلون على تغطية من جهات أخرى. مشكلة البطالة يلفت التقرير الى أن (غياب التأمين الصحي يرتبط على نحو كبير بالبطالة. لأن العاطلين عن العمل وغير القادرين على العمل يمثلون 23.16% من مجموع المستفيدين من فئة واحدة على الأقل من التأمين الصحي). وأشار التقرير الى أن (وضع برامج التقاعد لا يختلف عن التأمين الصحي، فهي ترتبط الى حد كبير بسوق العمل، إذ أن موظفي الدولة الذين يشكلون نحو 10% من القوى العاملة لديهم الفرصة في الاختيار بين الحصول على راتب شهري تقاعدي أو تعويض نهاية الخدمة بعد التقاعد. أما موظفو القطاع الخاص ومؤسسات الخدمات العامة والبلديات، الذين يمثلون25% من القوى العاملة ليس لديهم الخيار في راتب تقاعدي مستمر. تسهم البطالة في رفع نسب الفقر وزيادة انتشاره وليس مستغرباً أن تسجل البطالة نسباً عالية لدى الفئات الفقيرة في لبنان. واللافت أن السواد الأعظم من الفقراء هم عمال غير مهرة. وتجدر الاشارة الى أن المرأة في العائلات الفقيرة هي الأقل حظاً في العمل، وان ربع عدد النساء في العائلات الفقيرة هن غير عاملات. التقرير المعدّ من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأممالمتحدة الانمائي، الآنف الذكر، والذي حمل عنوان (الفقر، النمو عدم المساواة في لبنان)، يقول إن أرقام البطالة تزداد لدى الشباب العاطلين عن العمل ويشير الى أن البطالة تعد سبباً في اعادة انتاج الفقر وهي الأشد تعبيراً عنه. الفقر بحد ذاته، وإن شكَّل خطراً على الجوانب الصحية والاقتصادية للناس وتالياً على المجتمع، غير أنه، وبحسب البعض، يرون فيه تهديداً للاستقرار الاجتماعي ومن بعده الاستقرار الأمني للمجتمع. لأنه بنظر هؤلاء، يشكل الفقر محفزاً على التململ ومن ثم التمرد والاتجاه نحو السلوك العنفي في التعبير. مع ذلك، يعتبر بعض الاخصائيين الاجتماعيين ان ظاهرة العنف غير مقرونة بالفقر وحده، بمعنى آخر، ليس الفقر وحده مثير للعنف أو دافع باتجاهه.إذ هناك وبرأي الاخصائيين موضوع التربية داخل الأسرة والعلاقة بين أفرادها ومقاربة رب الأسرة للأمور. ثقافة مجتمعية مشوهة أخصائية علم النفس الاجتماعي الدكتورة رجاء مكي، اعتبرت انه ومند بدء الهجمة الريفية على المدن منذ ما قبل ستينات القرن الماضي، وتوسع المدن وبروز تنظيم مدني خاص، أخذنا نلحظ تمركز الاحياء الفقيرة في قلب هذه المدن وعلى أطرافها مشكلة ما يُعرف بأحزمة البؤس. وهي أحزمة تلف المدينة مكونة ضواحي لها، وهي امتداد مديني له طابع ريفي بعيد عن اهتمامات الدولة التنموية، الأمر الذي جعل من هذه المناطق الفقيرة تجنح نحو الأحداث والمشاكل المتأزمة في صفوف الشباب على وجه الخصوص وبدأ العنف يبرز عن وجهه بشكل أفصح، حيث تجد في فرنسا والولايات المتحدة مناطق يحظر السير فيها ليلاً. ونحن في لبنان، تقول مكي أخذنا عن أوروبا هذا الأمر. غير أن اهمال مؤسسات الدولة لهذه المناطق جعل الغرب يقوم بثلاثة أمور هي: - وضع تنظيم مدني جديد أعطى مجالاً لرؤية جديدة من خلال التخطيط العمراني. - نشاط الجهات المعنية بحقوق الانسان والفئات المهمشة حيث أضحت هذه الأخيرة محط اهتمام من أجل منحها حق العيش الكريم وتوفير الأمان والحاجات الأساسية لها. - نشاط المنظمات العالمية للعمل على مثلث التحضر، الفقر والمرض كمداخل الى توفير التنمية للانسان. وهنا الدول النامية قد بدأت تشهد هذا النشاط. أما في لبنان، فتقول مكي، إننا نسير بهذه الأمور لكن دون تخطيط واضح رغم جميع المساهمات في عملية التنمية الشاملة. وأصبح لدينا في لبنان،بحسب مكي، ليس مناطق فقيرة فحسب، بل أبنية صفيح، بمعنى آخر، اننا كأفراد نتجه الى الاهتمام بالقشور دون تحسين مضمون المعيشة وشروطها الأساسية. والدراسات التي أجرتها مكي بالاضافة الى تلك المعدة من قبل الاسكوا تظهر أن أبناء هذه المناطق الفقيرة في المدينة يعانون من مستوى معيشي وحياتي متدنٍّ لكنهم يملكون، الى حد ما، الكماليات كاقتناء أجهزة الهاتف الخليوي والأجهزة الكهربائية.. الى ما هنالك. وبرأي مكي هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون تحسين مستواهم المعيشي بسبب قصورهم الشخصي، من جهة، وقصور الدولة من جهة أخرى. وتلفت مكي الى أن الوضع التعليمي المتردي للأهل مترافقاً مع المعرفة المتأتية من مصادر غير علمية كالاعلام، على سبيل المثال، يجعل من الأفراد ينمون دون رعاية كافية، وبالتالي يصبح تعبيرهم عن مواقفهم يميل نحو العنف لإثبات الذات والبرهنة على التمييز عن الآخرين. مكي تؤكد على أن المستوى الاقتصادي المتدني يزيد من تهميش الفئات المستضعفة. غير أنه الى جانب ذلك، تلعب العلاقة الأولى بين الأفراد والأهل والتي تؤسس الى مفاهيم تربوية وامكانات إدراكية، دوراً كبيراً في وضع الأفراد داخل مجتمعهم. وتعتبر مكي أن جنوح هؤلاء الأفراد نحو السلوك العدواني انما سعياً منهم لإبراز أنهم أقوياء وباستطاعتهم التماهي مع القوي، سلطة كانت أم زعامة سياسية. ونخلص الى القول إن الإهمال الرسمي لهؤلاء الأفراد وأماكن إقامتهم مترافقاً مع الخلل في العلاقة الأولى التي تربطهم بالأهل، يشكلان مزيجاً دافعاً لهم نحو سلوك عنفي تعبيراً عن الذات وإثباتاً لحضورها. أما الحل برأي مكي، يكمن بخطة تنموية شاملة تهدف الى تحسين مستوى معيشة هؤلاء الأفراد، وان تصاحب هذه الخطة التنموية خطة أخرى نفسية - اجتماعية غرضها تأهيل الأهل وتقديم المعالجة النفسية للمحرومين الذين يتعرضون للمشاكل. قد يكون لضيق ذات اليد دور في دفع الفرد الى البحث عن متنفس يحاول من خلاله إثبات وجوده، فيتخذ الأمر شكلاً عنيفاً في التعبير، لكن متى ترافق ضيق ذات اليد مع ضيق الوعي أضحت أرضية العنف أكثر خصوبة وأشد أثراً.