في الجلسات التي انعقدت مؤخرا في الكونجرس الأميركي للاستماع لشهادة الجنرال بترايوس قائد القوات الأميركية في العراق، تأكد من جديد السبب الرئيسي وراء عجز الديمقراطيين عن استثمار الرفض الشعبي لإدارة بوش وتحويله إلى قيد حقيقي على سياسته في العراق. فمنذ أن فازوا بأغلبية مقاعد الكونجرس في انتخابات 2006 بناء على تعهدات بإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق، لم يفلح الديمقراطيون في تنفيذ ذلك التعهد لأسباب عدة منها أن هامش الأغلبية الذي يملكونه خصوصا في مجلس الشيوخ لا يسمح لهم بتمرير ما يريدون ومنها خوف الكثير من القادة الديمقراطيين من أن يتهموا بتعريض الجنود الأميركيين للخطر إذا ما قرروا وقف تمويل الاحتلال. لكن لعل السبب الأهم على الإطلاق هو أن الديمقراطيين يعارضون سياسة بوش في العراق في إطار المنظومة الفكرية نفسها التي وضعتها إدارة بوش للسياسة الخارجية الأميركية. إذ لم تقم النخبة السياسية والفكرية للحزب الديمقراطي بأية مراجعة جدية للأسس الفكرية التي قامت عليها تلك السياسة. فلم يقم الديمقراطيون مثلا بأية مراجعة نقدية لفكرة الإمبراطورية الأميركية، خصوصا عبر استخدام القوة العسكرية، ولا تعرضوا بالفحص والدراسة لفكرة تغيير النظم بالقوة أو مشروعية الحروب الاستباقية حين لا يكون هناك دليل واضح على وجود تهديد وشيك. بل أكثر من ذلك، لم تحدث أية مراجعة جدية للأسس القانونية والأخلاقية والسياسية التي قام عليها غزو العراق واحتلاله. ولا هم درسوا بشكل نقدي حتى تداعيات ذلك الاحتلال على المصالح الأميركية حول العالم. ولأنه لا توجد رؤى استراتيجية جديدة ينتجها الديمقراطيون فإنهم حتى حين يوجهون انتقادات لاذعة لبوش فإنهم في الواقع ينتقدونه من على أرضيته الفكرية ووفقا للمنظومة التي صاغها له المحافظون الجدد، دون أن يشككوا على الإطلاق في سلامة المنطق الذي تقوم عليه تلك المنظومة أو يتعرضوا بشكل نقدي لمسلماتها أو دقة المعطيات التي تبنى عليها أطروحاتها ومن هنا، فمن يتابع انتقادات الديمقراطيين لإدارة بوش يجدها تتعلق في التحليل الأخير بالتفاصيل دون الرؤية الكلية. فهناك بعض الديمقراطيين اعتبروا أن المشكلة كانت في تنفيذ الغزو لا في الغزو نفسه. وآخرون مثل هيلاري كلينتون اعتبروا أن المشكلة كانت أن بوش لم يستنفد الوسائل الأخرى قبل استخدام القوة العسكرية التي كانوا قد فوضوه باستخدامها في 2002. بل حتى باراك أوباما الذي رفض غزو العراق من أصله فقد رفضه لأنه من وجهة نظره كان غزوا للبلد الغلط في التوقيت الغلط لا لأن غزو دولة أخرى واحتلالها مرفوض من حيث المبدأ. وهو ما كان واضحا من موقف أوباما من فكرة استخدام القوة العسكرية ضد بلدان أخرى ومن مطالبته بزيادة حجم القوات الأميركية عموما بل وترحيبه ببرنامج الدفاع الصاروخي الذي أعرب بالمناسبة عن نيته في التعاون مع إسرائيل بصدده. بعبارة أخرى، لا يجد الديمقراطيون غضاضة في الطابع الإمبراطوري لسياسة بلادهم الخارجية. وإن اختلفوا حول تفاصيل إدارة تلك الإمبراطورية مع الجمهوريين. فسياسة الولاياتالمتحدة ستظل إمبراطورية الطابع سواء تولى الجمهوريون أو جاء الديمقراطيون. الفارق يتعلق بنوع الأدوات المستخدمة لخدمة الإمبراطورية وحمايتها. فالديمقراطيون يميلون لاستخدام الأدوات الاقتصادية والقوة الناعمة ويفضلون عسكرة أقل للسياسة الخارجية لبلادهم. ولا يبدو أن الديمقراطيين مثلهم مثل الجمهوريين قد تعلموا الدرس الأساسي لحرب العراق وهو أن هناك حدا لقدرة القوة العسكرية مهما كانت غاشمة. وهو بالمناسبة الدرس نفسه الذي كان عنوان هزيمة فيتنام. ولأن الديمقراطيين لم يعوا هذا الدرس، حتى بعد كارثة العراق، فإنك تجدهم يكررون الكلام نفسه بتنويعات مختلفة بشأن الدور العسكري الأميركي في الخارج. فهيلاري كلينتون لا تستبعد الخيار العسكري في حالة إيران بينما أعلن أوباما استعداده لاستخدام القوة العسكرية ضد باكستان إذا ما تأكد أن بن لادن موجود بها وثبت رفض الحكومة الباكستانية أو عجزها عن ملاحقته. وكلاهما لا مانع عنده من العمل العسكري المنفرد خارج إطارالقانون الدولي وبغض النظر عن موقف المجتمع الدولي. ولا تجد فارقا كبيرا بين نوع الخطاب الذي يستخدمه الديمقراطيون والجمهوريون بشأن الحادث اليوم في العراق. إذ تجد الديمقراطيين مثل الجمهوريين يلقون باللوم على العراقيين الذين «عليهم أن يساعدوا أنفسهم» كما يقولون. ولن تجد عزيزي القارئ أية إشارة إلى المسؤوليات التي يفرضها القانون الدولي على دولة الاحتلال. ومن تابع جلسات الجنرال بترايوس يجد أنها كانت تدور حول ما إذا كان العنف قد انخفض في العراق وكأن الهدف هو تخفيض العنف لا أن هناك مسؤوليات تجاه أهل العراق ومستقبل ذلك البلد أصلا. ولأن الديمقراطيين يعارضون بوش وهم واقفون على أرضيته لا أرضية مختلفة، فهم عاجزون عن تقديم رؤية استراتيجية متكاملة ليس فقط فيما يتعلق بمستقبل الوجود الأميركي في العراق وإنما فيما يتعلق أيضا بالتعامل مع كل قضايا الشرق الأوسط الأخرى. فالأفكار التي يطرحونها لا تعدو أن تكون مجرد أفكار تكتيكية تتعلق بالتفاصيل لا بالرؤى الكلية ووجهة السياسة الخارجية عموما. والجدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي في هذا الصدد يعاني انفصالا واضحا بين قمته وقاعدته، أي بين نخبة الحزب الفكرية والسياسية من ناحية، ونشطائه وناخبيه من ناحية أخرى. فبينما يهيمن تيار يمين الوسط على النخبة السياسة والفكرية، فإن قاعدة الحزب يهيمن عليها جناح اليسار. وهم يرفضون عسكرة السياسة الخارجية لبلادهم ويعارضون الطابع الإمبراطوري لها. وهو انفصال يتجلى في الفارق بين أوباما المرشح والحركة المناصرة له. فالحركة أكثر تقدمية بكثير من المرشح نفسه. وهي تأمل من خلاله إلى سد تلك الفجوة بين النخبة والقاعدة عبر الضغط على المرشح ودفعه دفعا نحو تحقيق مطالبها في الداخل والخارج على السواء. لكن ذلك يتطلب مراجعة فكرية جدية لأسس المنظومة الفكرية للسياسة الخارجية الأميركية. وما لم تحدث تلك المراجعة وتلقى قبولا شعبيا واسعا، فإنه لا يجوز لنا أن نتوقع حدوث تغير في السياسة الخارجية الأميركية بغياب بوش من على الساحة السياسية، سواء تولى الرئاسة بعده ديمقراطي أو جمهوري.