تحت الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر، وتحديداً تحت مدينة رفح، تنتشر عشرات الانفاق التي لجأ الفلسطينيون الى حفرها لتصبح منفذهم الى العالم الخارجي في ضوء الحصار الاسرائيلي الشامل على قطاع غزة واغلاق المعابر ونقص الكثير من المواد الاساسية. لكن اللافت ان هذه الانفاق باتت تشكل عالماً بحد ذاته، له اخصائيوه وقوانينه واخلاقياته والقضاء الخاص به، ويتم فيه تهريب كل شيء ... بما فيه البشر. وحسب التقديرات في مدينة رفح الفلسطينية التي يربطها مع مدينة رفح المصرية اكثر من 150 نفقاً اسفل الشريط الحدودي المعروف باسم «محور صلاح الدين» (محور فلادلفي)، فإن القطاع يستورد من مصر عبر الانفاق بضائع تزيد قيمتها السنوية عن نصف بليون دولار. ورغم ان اسرائيل دمرت العشرات من الانفاق، الا انها فشلت في القضاء على هذه الظاهرة. «الحياة» زارت مدينة رفح حيث حفر مهربون فلسطينيون ومصريون أول نفق أسفل الشريط الحدودي غداة اقامته في اعقاب ترسيم الحدود بين مصر واسرائيل عام 1982 بموجب معاهدة «كامب ديفيد» التي وقعت عام 1979. هذا الشريط الممتد من شاطئ البحر غرباً وصولاً الى نقطة تلاقي الحدود بين مصر والقطاع واسرائيل شرقاً بطول 14 كيلومتراً، يقسم رفح الى شطرين (الفلسطينية والمصرية)، والعائلة الواحدة الى عائلتين، والعشيرة الى عشيرتين، وهو ما أدى الى انتشار الانفاق اسفل مساحة تصل الى نحو عشرة كيلومترات او أقل قليلاً، فوصل عددها استناداً الى تقديرات «اهل المهنة» الى نحو 150 حالياً. وتتراوح اطوال الانفاق بين أقل من 500 متر وأقل من كيلومتر واحد، ويستغرق حفر الواحد منها نحو ثلاثة اشهر ويكلف آلاف الدولارات، في حين تتفاوت الكلفة المادية استناداً الى نوعية التربة، والتجهيزات المطلوب وجودها داخله، وارتفاعه وطوله وعرضه. وأشار أحد المطلعين على قضية الانفاق الى وجود مجموعة من الحفارين المتخصصين، كان معظمهم في مرحلة ما من مدينة رفح، اما الآن فعدد منهم من مدينة خان يونس المجاورة. واضاف ان الحفر يتم يومياً بثلاث دوريات، مدة كل واحدة منها ثماني ساعات، موضحاً ان الحفارين «ليسوا أُجراء» بل «شركاء» في النفق الذي يحفرونه، ويتقاسمون مع مالكه الذي يكون عادة مالك منزل قريب من الحدود، الأرباح بعدما يبدأ النفق بالعمل. وشهدت الانفاق تغيراً دائماً لقوائم السلع التي تمر عبرها، لكن بعض السلع حافظ على «مكانته المرموقة» بين تلك القوائم، مثل المخدرات. وقال خبير في شؤون الانفاق ان عمل الانفاق شهد ازدهاراً غير مسبوق حالياً بسبب الحصار، مضيفا ان الانفاق تقسم الى اقسام عدة، منها للفصائل المسلحة، خصوصاً «حماس»، مخصصة لتهريب السلاح والاموال، واخرى لمهربي السلع الضرورية والمواد الغذائية، وثالثة لتهريب المخدرات والممنوعات وهي قريبة من المناطق الحدودية الشرقية ولا تتمكن الحكومة المقالة وأجهزة الأمن التابعة لها من الوصول اليها بسبب قربها من المواقع العسكرية الاسرائيلية المحاذية للقطاع. وأفاد خبير ثان أن القوائم كثيرة، وتبدأ من المواد الغذائية مروراً بالادوية وحبوب «الفياغرا»، وتشمل ايضاً قطع غيار السيارات، وقطعاً لأجهزة الحاسوب والسجائر وغيرها الكثير من السلع التي نفدت من الاسواق. واشار الى ان كثيراً من التجار الكبار والصغار في القطاع يتوجه الى المهربين لجلب البضائع الى غزة من مصر. واوضح ان التهريب يتم بواسطة «حاويات» صغيرة نسبياً تدفعها مولدات صغيرة. وقالت مصادر عدة، بما فيها رجل شرطة من «حماس»، ان الحركة تعلم جيداً عدد الانفاق وهوية مالكيها ونوعية البضائع المهربة عبرها، وتلتزم الصمت حيال هذه الظاهرة نظراً لأنها تخدم مصالحها، اذ تستفيد الحركة من عدد من الانفاق من خلال تهريب الاموال لتمويل مصروفاتها والتزامات حكومتها، فضلاً عن السلاح الذي تراجع الطلب عليه كثيراً في الاشهر الاخيرة. وكشف ل «الحياة» ان الشرطة تنوي خلال الايام القليلة المقبلة اغلاق عشرات الانفاق بعدما ازداد الضغط الاميركي - الاسرائيلي على مصر التي ضغطت بدورها على الحركة لإغلاقها. ولم ينف ان يكون هناك ثمن لمثل هذه الخطوة لن تتمكن «الحياة» من نشر تفاصيله، لكنه اكد ان حرية حركة المواطنين في القطاع تُعتبر هاجساً كبيراً للمواطنين والحكومة والحركة التي يرغب العشرات من كوادرها في الخارج في العودة الى القطاع. وكشفت مصادر فلسطينية ان دفعة من هؤلاء مؤلفة من خمسة اشخاص عادت الى القطاع قبل يومين عبر أحد الانفاق بعد اشهر من التنقل بين سورية ولبنان للمشاركة في دورات عسكرية. ويقول خبير ثالث في شؤون الانفاق ان هناك قضاءً قائماً بذاته في المدينة للفصل بين المهربين في حال نشوء خلافات بينهم، وهي خلافات غالباً ما تتناول تقسيم الارباح وتوزيع الاعمال بين مالكي النفق او الانفاق. ويضيف ان اثنين من القضاة (من بين نحو خمسة) يتميزان بكفاءتهما بسبب خبرتهما الطويلة في «المهنة»، ونظراً لأنهما من اوائل من عمل في هذا المجال. ويرى كثيرون ان ثمة «أخلاقاً وأخلاقيات» لدى اصحاب المهنة، ويذكرون على سبيل المثال ان احدهم باع عشرات آلاف علب السجائر المهربة من اصناف عالمية صنعت في مصر بالسعر الذي كان سائداً قبل سيطرة «حماس» على القطاع. واشاروا الى انه في حال وفاة احد حفاري الانفاق جراء انهياره اثناء الحفر يتكفل الشركاء الآخرون بإعالة أسرته واعتباره شريكاً كما لو كان حياً يُرزق وفاءً له.