لم ولن يشهد التاريخ حربا محيرة, وشرسة, ومنحطة مثل تلك الحرب التي تدور رحاها فوق الأراضي المصرية, والتي أوشكت الآن أن تكمل عامها الثالث.. هذا في مقابل ستة عشر يوما استغرقتها حرب أكتوبر 1973 التي أجمع المراقبون العالميون على أنها كانت أكثر الحروب التقليدية شراسة وعنفا.. الحرب الدائرة الآن فوق الأراضي المصرية هي حرب سرطانية, يحتار فيها الجنرالات والخبراء ويصفها من ابتكروها بأنها الجيل الرابع من الحروب, وهي لا تحتاج إلى جيوش من الطرف المعتدي, ولكنها تعتمد على شرائح بعينها من الوطن المستهدف مهاجمته وتخريبه, ولا تحتاج إلى أسطول من طائرات القتال, أو الصواريخ أرض/أرض, لتدمير القوات المسلحة للطرف الآخر, تمهيدا للوصول بعد ذلك إلى بنيته الاقتصادية ومنشآته الحيوية.. لا تحتاج إلى شيء من هذا النمط الكلاسيكي الذي تتبعه الحروب التي عرفناها قبل ذلك, والتي لم يصل معظمها إلى هذا الحد التدميري المخيف, واقتصرت غالبيتها على المواجهة بين القوات المسلحة للطرفين المتحاربين. أما حروب هذا الجيل الرابع, فإنها تصل بسهولة عن طريق الأجراء والعملاء من أبناء الوطن المستهدف يصل هؤلاء الخونة مباشرة إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة, ومقر وزارة الداخلية, ومباحث أمن الدولة, ومبنى الإذاعة والتليفزيون, وقصور الرئاسة, ومقار رئيس الجمهورية, والمتاحف التي تضم تراث وكنوز الدولة والإنسانية جمعاء. وقل ما تشاء من أهداف حيوية يستحيل على أي عدو الوصول إليها من خلال الحروب التي كانت سائدة قبل ذلك, اللهم إلا إذا كان هذا العدو قد نجح وبعد معارك شرسة وطويلة وعديدة في تحطيم جميع عناصر القوة العسكرية للدولة المستهدفة.. الأمر الذي لم يتحقق للغالبية العظمى من الحروب التي عرفناها قبل هذا التاريخ المشئوم. نعم أيها السادة هذا ما تشهده مصر الآن ولا يستخف به إلا من كان خفيف العقل والفهم والإدراك.. انظروا إلى الحروب التي خاضتها مصر في تاريخها الحديث ابتداء من معارك الحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها في صحرائنا الغربية وساحلنا الشمالي, ومن بعدها حرب 48, ثم العدوان الثلاثي في عام 1956 الذي اشتركت فيه إنجلترا وفرنسا وإسرائيل, وحرب 1967 التي كان فيها للولايات المتحدة ودول العالم الغربي دور أساسي في التخطيط والإعداد والمساندة الدولية, ثم حرب الاستنزاف التي دارت عاما كاملا تطاحن خلاله الجانبان المصري والإسرائيلي بشكل غير مسبوق. وأخيرا حرب أكتوبر التي كانت كما ذكرنا أعلاه أكبر الحروب التقليدية شراسة وعنفا. كل هذه الحروب لم تنجح في الوصول إلى منشآتنا الاقتصادية, وبنيتنا التحتية, ومتاحفنا الحضارية, ومقار الرئاسة والوزارات السيادية.. كل هذه المنشآت لم يستطع الأعداء وهم كثر الاقتراب منها أو المساس بها.. ولكن شراذم العملاء, الذين تلقوا تدريباتهم في فريدام هاوس وفي غيرها من المؤسسات الأمريكية الغامضة والمشبوهة, والذين تلقوا من الدولارات الأمريكية أكثر مما تلقته مصر من الولاياتالمتحدة في إطار برامج المعونة والمساعدات!!. شراذم العملاء هؤلاء استطاعوا ولسوف يستطيعون مستقبلا وبكل سهولة الوصول إلى أي موقع في أحشاء الدولة المصرية.. وهنا تكمن الخطورة القصوى التي لا يستشعرها البسطاء منا, ومعهم طوابير العبثيين, والمستهترين.. والمغيبين!. إن الحرب الضروس التي تدور رحاها الآن فوق أراضينا, أطرافها الثلاثة هم: (1) الولاياتالمتحدةالأمريكية عن طريق المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني التي حرصت واشنطن أشد الحرس على إنشائها داخل أراضينا, وما تبع ذلك من تجنيد أعداد هائلة من شبابنا, ثم دعوة الكثيرين منهم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية, حيث تلقوا دراسات وعمليات تلقين عن تكنيك الثورات في العصر الحديث, على غرار الثورات البرتقالية, والوردية, والقرمزية, وقد تم التلقين أساسا في بيت الحرية فريدام هاوس, الذي يرأسه المدعو بيتر أكرمان (واسمه يدل على أنه من المحتمل أن يكون يهوديا) كذلك, فإن هذا البيت فريدام هاوس كان وراء عمليات تمويل عددا من الصحف المستقلة والقنوات التليفزيونية, التي من المستحيل أن يكون من بيننا من يستطيع الاستمرار في تمويلها بهذا السخاء.. رغم خسائرها الواضحة والفادحة! (2) إنجلترا التي لا تتغيب عن أي مصيبة تستهدف العالم العربي وبصفة خاصة مصر هذا ولو أن دورها في الأحداث الراهنة يعود إلى عشرينيات القرن العشرين, عندما أنشأته في مصر جماعة الإخوان المسلمين لإحداث انقسام في كيان وتجانس الشعب المصري على غرار التجربة التي أجرتها في الهند وأدت إلى انقسام الدولة هناك, بعد المصادمات الهائلة بين الهندوس والمسلمين, مما أدى في النهاية إلى انقسام الدولة وإنشاء دولة باكستان, وحتى يومنا هذا مازال التوتر يسيطر على دولتي شبه الجزيرة الهندية!. ومنذ قيام جماعة الإخوان المسلمين في مصر, فإنها كانت وراء معظم الاضطرابات التي شهدتها البلاد, وغالبية عمليات الاغتيال والتخريب!.. ثم كانت أن خرجت إلى النور لأول مرة في تاريخها بعد أيام من ثورة يناير, واستولت تماما على زمام الأمور, ومن بعد ذلك استولت على الحكم, وأقحمت البلاد في أحلك حقبة من تاريخ أول وأقدم دولة في العالم كله! (3) إسرائيل التي طبقت نفس السيناريو الميكيافيلي لبريطانيا العظمى عندما قامت بإنشاء حركة حماس بناء على فكرة المهندس الداهية موشي إيرينز وزير الدفاع الأسبق, وذلك لإحداث المزيد من الانشقاق في الصف الفلسطيني, فكان أن انقسمت الدولة الفلسطينية, بمجرد قيامها, إلى دولة فتح برئاسة عباس, ودولة حماس برئاسة هنية!.. ثم كان وللعجب العجاب أن وجهت حماس نشاطها النضالي غربا في اتجاه مصر, وعكس الاتجاه الصحيح إسرائيل بمائة وثمانين درجة.. هكذا بكل بجاحة وخسة, ونكران للجميل! وهكذا نرى أن الاضطرابات الهائلة التي تشهدها مصر حاليا قد تم التخطيط لها منذ سنوات طويلة: نحو عشر سنوات من جانب الولاياتالمتحدة التي كانت تعرف جيدا شكل الأحداث المقبلة, وتطوراتها, وأهدافها!.. أما بالنسبة لإنجلترا, فإنه بالرغم من أن مخططاتها بشأن إنشاء وتنظيم جماعة الإخوان, لم يكن يرمي إلى الأحداث المأساوية التي نشهدها الآن, إلا أن الهدف لم يكن يختلف كثيرا, وكان يرمي منذ عشرينيات القرن الماضي إلى تمزيق وحدة المجتمع وبلبلة أفكار شريحة ضخمة من أبناء هذا الشعب, لابد أن تعمل في غير مصلحة هذا المجتمع, وذلك الوطن.. وقد كان لها إنجلترا ذلك طوال ما يقرب من قرن كامل من الزمان انتهى بالالتقاء بالمخطط الأمريكي.. وكان ما كان ولايزال! أما بالنسبة لإسرائيل, وإنشاء حركة حماس, فقد كان الهدف الأساسي هو تمزيق وحدة الصف الفلسطيني حتى يمكنها أن تحتفظ بالأرض وتعرقل قيام الدولة الفلسطينية.. إن كانت ستقوم في ظل هذا الهرج والخيانات المستمرة.. كان الهدف الإسرائيلي هو تمزيق الصف الفلسطيني وإن كان هذا الهدف, وبسبب التطورات الأخيرة, قد طال ما لم تحلم به إسرائيل, وذلك عندما أصبحت حماس خنجرا ساما في ظهر الدولة المصرية, وهي القوة الوحيدة التي وقفت, ويمكن أن تقف في وجه إسرائيل إذا ما دعت الضرورة, والدولة التي خاضت خمس حروب من أجل القضية الفلسطينية, وكان بجانب تبدد مواردها وتدهور اقتصادها كان أن فقدت أرواح آلاف مؤلفة من أعز الأبناء.. من أجل فلسطين وعيون الفلسطينيين! لم يكن مستغربا أن تتسلل حماس إلى الأراضي المصرية لاقتحام السجون, وإطلاق سراح المجرمين.. فالمجرمون يتعاطفون مع بعضهم البعض, ويتآلفون مع بعضهم البعض ضد الشرفاء والأسوياء! وقبل يناير 2011 لا ننسى لحماس وأخوتها اغتيال يوسف السباعي الذي حمل السيف والقلم دفاعا عن فلسطين, وعن قضيتهم الأزلية المعجونة بالخيانات منذ أربعينيات القرن الماضي, وحتى عشرينيات الألفية الثالثة! وبالمثل لا ننسى الأفراح التي اقامها أشاوس فلسطين ابتهاجا بمقتل الرئيس السادات! ولا ننسى هجوم هؤلاء الأشاوس على رجال الصاعقة المصريين في مطار لارناكا, ولا ننسى عمليات نسف خطوط الغاز الطبيعي الممتدة في سيناء مرات ومرات ومرات, ولا ننسى تهريب البنزين والسولار المدعم من عندنا وتخزينه في بيارات في سيناء, ثم تمريره إلى غزة لبيعه بأسعار باهظة.. وهي كلها تجارة.. حتى لو كان معني ذلك تكدس وتوقف كل المركبات في مدن وشوارع الشقيقة الكبرى, ونفس الشيء بالنسبة لجميع السلع المدعمة.. وما خفي كان اعظم! ثم أكثر من كل هذا عمليات قنص الجنود المصريين في أثناء نزولهم أو عودتهم من الإجازات, وكيف يقتلون هؤلاء العزل من أي سلاح (لأنهم في إجازات) بدماء باردة كما لو كانوا هم الأعداء الذين اغتصبوا أراضيهم, وليس الشرفاء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل هذه القضية الكئود التي يبدو أنها أطاحت بعقول وشرف وضمائر فصيل ضخم من أصحابها.. وعلينا نحن أن ندفع الثمن! أردت القول إننا نتعرض لعدوان ثلاثي أطرافه هي واشنطن, وجماعة الإخوان المسلمين, وأشاوس حركة حماس, وهنا فإن رد الفعل الشرطي سيعود بنا حتما إلى العدوان الثلاثي في عام 1956 الذي كانت أطرافه, كما نعرف جميعا, هي انجلترا وفرنسا وإسرائيل! ولكن شتان بين هذا العدوان وذاك لسبب بسيط هو أن الأعداء في 56 جاءوا من الخارج فكان أن تصدينا لهم حينما هبطوا, كذلك فقد كانوا معروفين يسهل التمييز بينهم وبين السكان المحليين! أما في الجيل الرابع من الحروب فإن الأعداء انبثقوا من داخل نفس الوطن.. صحيح أنهم مضللون ومدفوعون من جهات أجنبية, ولكنهم في النهاية ينتمون لنفس الدولة ويعيشون بيننا.. وهذا هو الجديد والخطير في العدوان الثلاثي الحالي, والأخطر من كل هذا هو أنه في حالة عدوان عام 1956 كان أن تقدمنا بشكوى إلى مجلس الأمن وذلك في الوقت الذي تحرك فيه الاتحاد السوفيتي السابق ليهدد ويتوعد بل اكثر من هذا وذاك فإن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت دوايت ايزنهاور تدخل بقوة وهدد الدول الثلاث المعتدية وبالمناسبة كان ايزنهاور جنرال في الجيش الأمريكي ولمع نجمه خلال معارك الحرب العالمية الثانية فاختاروه رئيسا لفترتين متتاليتين, وبسبب كل هذه المواقف الدولية كان أن انسحبت قوات العدوان الثلاثي تجر وراءها ذيول العار والفشل, أما بالنسبة لشراذم المرتزقة والبلطجية الناشطين عندنا الآن فلا يمكن أبدا أن نسميهم قوات بالنسبة لهؤلاء فلا مجلس الأمن, ولا دول العالم الخارجي تستطيع أن تفعل شيئا وذلك من منطلق أنه شأن داخلي.. وهذا صحيح, ولكن الصحيح أيضا أن هناك قوى خارجية تابعة لدول مختلفة إحداها هي الدولة الأولى في العالم.. هناك قوى عالمية كانت وراء هذه المسخرة الكبرى, وهنا لابد من ايجاد تشريعات دولية تتيح لمنظمة الأممالمتحدة أن تتحرك, وتتخذ قرارا إذ أن هذا الموقف, وهذا النمط الجديد من الحروب سيتكرر كثيرا, خاصة في دول العالم الثالث الذي أصبح مرتعا لأهواء ومخططات الدول التي تتوهم أنها الكبرى وأنها سيدة الكون!. خاتم سليمان.. الأمريكي خلال السبعينيات, وكنت وقتها رئيسا لقسم الشئون العسكرية بالأهرام, كان أن اختارني المشير محمد الجمسي تغمده الله برحمته الواسعة لأرافقه على رأس وفد عسكري مصري في زيارة للولايات المتحدةالأمريكية كانت الأولى من نوعها بعد حرب اكتوبر العظيمة, وما تلاها من عودة العلاقات بين القاهرةوواشنطن على أساس متين من التقدير والاحترام, وبعد سنوات طويلة من القطيعة التامة استفادت منها إسرائيل الى أقصى الحدود, وخلال هذه الزيارة التاريخية كان الاحتفاء بالقائد العام للقوات المسلحة المصرية المنتصرة, والوفد المرافق له, كان هذا الاحتفاء على أكمل وجه وصورة, واستطرادا في هذه الحفاوة البالغة كان أن شملت الزيارة مركز القيادة الرئيسي لإدارة عمليات القوات المسلحة الأمريكية وهو المركز الذي يعتبر قدس الأقداس لأي دولة في العالم.. فما بالنا بمركز القيادة الرئيسي للدولة الأولى في عالمنا! هناك كان أن شاهدنا العالم كله كما لو كنا داخل قاعة للعرض السينمائي.. أي بقعة في أي دولة كان يتم توجيه الأقمار الصناعية اليها وبعد ثوان تظهر على الشاشات أمامنا كل تفاصيل هذه المنطقة كما لو كنا موجودين هناك. وعلى أي حال ليس هذا هو بموضوعنا هنا, ولكن الموضوع الذي أريد أن أتحدث عنه هو هذا النظام العجيب والغريب الذي نعرف الآن وبعد سنوات طويلة أنه الانترنت وقال لنا القائد الأمريكي المسئول: إن هذا الجهاز يستطيع في ثوان معدودة أن يمدنا بأي معلومة نطلبها منه, كما لو كان خاتم سليمان الذي تحدثت عنه الأساطير العربية, وتأكيدا لهذه الحقيقة سألنا أن نطلب أي معلومة تطرأ على أذهاننا, فكان أن طلب أحد أعضاء الوفد العسكري المصري مازحا معلومات عن المشير محمد عبدالغني الجمسي, وما هي إلا ثوان معدودة حتى خرجت أمامنا قائمة طويلة من المعلومات الدقيقة, والصحيحة عن المشير الجمسي منذ تاريخ ولادته وحتى تاريخ زيارته تلك للولايات المتحدة. وقتها وبعد قراءة تلك التفاصيل, ابتسم المشير الجمسي وقال مازحا: أنا نفسي لا أتذكر كل هذه التفاصيل. ووقتها تصورت أنه ستمضي سنوات وعقود طويلة قبل أن نرى هذا الجهاز السحري بين أيادينا ولكن سرعان ما خاب ظني, وعظمت دهشتي, عندما شرعت واشنطن في مد كابلات الاتصالات عبر الأراضي والمحيطات في جميع أنحاء الكرة الأرضية حتى يمكن توفير هذه الشبكة العنكبوتية الى جميع الدول وجميع البشر حتى لو كانوا ينتمون الى المعسكر الآخر. حينذاك, وبسذاجة شديدة, تصورت ان الهدف هو تحقيق الحلم الأمريكي في تغيير شكل العالم بأكمله ابتداء من تناول الكنتاكي والهمبورجر والكوكاكولا, وانتهاء بالديمقراطية والرأسمالية وكامل حقوق الانسان وجميع الحريات.. الخ, هكذا تصورت وقتذاك, ولم أتصور أبدا أنه من خلال هذه الشبكة العنكبوتية وفي رأيي أن هذه هي التسمية المناسبة لم أتصور أبدا أنه من خلال هذه الشبكة ستعمل واشنطن على انهيار الاتحاد السوفيتي السابق, وقيام الثورات البرتقالية, والثورة الوردية, والأخرى القرمزية.. وما يستجد بعد ذلك من أشكال والوان الى ان يتحقق الحلم الأمريكي المجنون, بتغيير شكل العالم كله ليتناسب مع الأهواء والمزاج الأمريكي.. ويا حبذا لو امتدت نزعة الهيمنة تلك لتشمل جميع الكواكب والمجرات, وذلك حتى تصبح أمريكا سيدة الكون بأكمله.. وليس مجرد هذه الكرة الأرضية الضئيلة التي ضاقت بمن فيها! نقلا عن جريدة الأهرام