نقلاً عن الأهرام 06/03/2007 ما قاله سيمور هيرش عن الجزء المعلن من المخططات الأمريكية بالمنطقة كاشف وخطير, الأمر الذي يثير ما لا حصر له من الأسئلة حول الجزء الغاطس منها. (1)شهادة الصحفي الأمريكي الأشهر ليست قابلة للنقض. لذلك فإن كلامه ينبغي أن يؤخذ علي محمل الجد. صحيح أن فضيحة السياسة الأمريكية في المنطقة العربية أصبحت سيرتها علي كل لسان, إلا أن قراءة رجل مثله لكتاب الفضيحة لها وضع خاص. ليس فقط لانه مطلع علي ما يجري وراء الكواليس الأمريكية, وليس فقط لأن لديه قدرة علي تقصي الحقائق وسبر اغوارها, وإنما لانه نموذج لضمير الصحفي الذي اختار منذ40 عاما ان يحارب بقلمه الظلم والفساد حيثما وجدا. لقد كانت دعوة مؤسسة محمد حسنين هيكل الصحفية له, لكي يدشن ميلادها ويفتتح نشاطها, أفضل وأذكي اعلان عن دور المؤسسة وطموحها. فالرمز مهم والمحاضرات الثلاث التي ألقاها في القاهرة لا تقل أهمية, علي الاقل من حيث إن هيرش ذكرنا بالصحافة المحترمة التي كدنا ننساها, وبجيل الصحفيين الشرفاء المقاتلين دفاعا عن الحقيقة, الذين لم نعد نراهم إلا في الصور, وبقوة القلم النزيه الذي يهتدي بالضمير الحي ويكتسب شرعيته من الولاء للقارئ وحده, وهو الرصيد الذي يعتمد عليه في تحدي جبروت أعتي قوة في العالم المعاصر. بسبب من ذلك فلعلي لا أبالغ اذا قلت ان المشهد في جملته بدا وكأنه لحظة خارج الزمن الذي نعيشه, حيث بدا النموذج وكأنه قادم إلينا من كوكب آخر, وبدا الكلام تغريدا خارج السرب, بل بدت العملية وكأنها محاولة يائسة لزراعة قلب في جسد واهن صعدت منه الروح, وعز علي بعض أهله ان يسلموا بوفاته, فأصروا علي استنقاذه بأي ثمن, حتي وان كان ذلك تعلقا بوهم أو خرافة, ورغم أن نعيه بات يتداوله الناس كل صباح! (2)ما الذي قاله سيمور هيرش؟ لقد عرض الرجل لبعض خبراته واستطلاعاته, بتركيز خاص علي أحداث مخططات السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط, وهي التي سلط عليها أضواء قوية في تقريره الأخير, الذي نشرته له اسبوعية نيويوركز يوم5 مارس أمس . وحسب المعلومات التي أوردها فان الولاياتالمتحدة وضعت استراتيجية جديدة للمنطقة, انطلقت من اعادة تقييمها للتطورات التي شهدتها, واستخلص منها المحللون الأمريكيون انهم يواجهون خطرين احدهما يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية علي النفط في العراق, كما يؤثر علي نفوذها في العالم العربي. والثاني يهدد الحسابات الإسرائيلية ويخل بتوازن القوة في المنطقة واعتبر اولئك المحللون أن إيران هي المصدر الاساسي للخطرين وبالتالي فان هدف السياسة الجديدة هو توجيه ضربة لها تستهدف اضعافها أو تركيعها, من خلال الاستراتيجية التي أطلق عليها وصف إعادة التوجه أو إعادة النظر في الاهداف, وتم الانتهاء منها في أواخر العام الماضي(2006) وقال عنها مستشار حكومي أمريكي إنها تمثل تحولا رئيسيا في السياسة الأمريكية معتبرا انها تضمنت بحرا من التعديلات. حسب هيرش فان السياسة الجديدة نوقشت علي الملأ, إذ قالت السيدة كوندوليزا رايس في شهادة لها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ خلال ديسمبر الماضي إن هناك اصطفافا استراتيجيا جديدا في الشرق الأوسط يفصل بين الاصلاحيين والمتطرفين, مشيرة الي أن الدول السنية تمثل مراكز الاعتدال, في حين تقع إيران وسوريا وحزب الله في الجهة الأخري من هذا التقسيم. أضاف الرجل ان بعض التكتيكات الجوهرية لاعادة التوجيه ليست علنية, ففي بعض الحالات أبقيت العمليات السرية مستترة, من خلال ترك التنفيذ أو التمويل لإحدي الدول النفطية العربية, أو من خلال إيجاد طرق أخري للالتفاف حول آلية صرف المخصصات في الكونجرس. في هذا الصدد قال: إن اللاعبين الاساسيين وراء إعادة التوجيه هم نائب الرئيس ديك تشيني, ونائب مستشار الأمن القومي اليوت ابرامز, والسفير الأمريكي في العراق( المرشح لمنصب سفير الأممالمتحدة) زلماي خليل زاد, ومستشار الأمن القومي في احدي الدول العربية, وفيما بقيت رايس مسئولة عن رسم السياسة العلنية, فان الجانب السري يتولاه تشيني( رفض مكتب تشيني والبيت الأبيض التعليق علي هذه القصة). (3)نقطة الانطلاق في الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة كما عرضها سيمور هيرش تتمثل في استثمار اقتناع عبرت عنه بعض الدول العربية في حوار ممثليها مع واشنطن, خلاصته ان ايران أصبحت أشد خطرا علي المنطقة من إسرائيل, وان التهديد الايراني بما قد يستصحبه من انبعاث شيعي يفوق ما يمثله المتطرفون من أهل السنة الذين هم الأعداء الأقل شأنا. المفاجأة في هذا الكلام إذا صح تتمثل في أمرين, الأول أن الطرف العربي الذي شارك في توفير خلفية الاستراتيجية الجديدة يتمثل في دولة عربية ليست محسوبة علي خط التطبيع أو التصالح مع إسرائيل, وقد اعتبر هيرش انها من الدول التي تعتبر ان ايران تمثل تهديدا وجوديا لها, وهو نفس الشعور الذي عبرت عنه اسرائيل, هذا التلاقي في وجهات النظر افرز عناقا استراتيجيا بين البلدين, علي حد تعبيره, تطور خلال التفاهمات التي تمت بحيث جعل الدولة العربية المذكورة وممثليها الذين ذكرت اسماؤهم, أكثر تدخلا في المفاوضات العربية الإسرائيلية, بل أصبحوا قناة رئيسية في الاتصالات الجارية لترتيب الأوضاع بين العرب وإسرائيل. النتيجة الثانية التي لا تقل اهمية ان هذا التفاهم ادي الي تراجع أولوية الحرب ضد الارهاب في الاستراتيجية الأمريكية, وتقديم الخطر الايراني عليها, وهو ما يستدل عليه من الاشارة الي اعتبار المتطرفين السنة( تنظيم القاعدة مثلا) الأعداء الأقل شأنا الأمر الذي يعني التحول النسبي وربما المؤقت في الاستراتيجية الجديدة الحرب ضد الارهاب الي الحرب ضد ايران, علي الاقل فيما يخص الشرق الأوسط. هذا التحليل التقي ضمنا علي ان ايران صارت مصدر الشر, الذي يجب الخلاص منه. وهذا الخلاص المنشود يتحقق بوسائل عدة تتراوح بين إشعال نار الحرب الباردة بين السنة والشيعة الوصف ورد علي لسان مارتن انديك السفير الأمريكي السابق لدي اسرائيل وبين توجيه ضربة عسكرية لايران, وقد بدأ الإعداد بهمة ونشاط علي هاتين الجبهتين. وكانت التبعئة المضادة تمهيدا ضروريا لكل منهما, وهو ما قام به الاعلام بدور رئيسي فمن ناحية جري تكثيف الإلحاح علي فكرة الخطر الشيعي, الذي تمثل تارة فيما سمي بإقامة هلال شيعي يضم العراق وسوريا وحزب الله في لبنان, وتارة بالتخويف من التوسع الشيعي في بلاد السنة, وتارة ثالثة بابراز إساءات متعصبي الشيعة لصحابة الرسول وللسيدة عائشة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام, وجري بث هذه المخاوف وتعميمها من خلال الكتب العتيقة التي أعيد طبعها والحملات الصحفية التي حفلت بها صحف معينة, والبرامج التليفزيونية التي استدعت الملفات القديمة واعادت فتحها من جديد, كما ظهر دعاة أعادوا انتاج مرارات الماضي وانتعشت تجمعات تعيشت تاريخيا من التحريض علي الشيعة واخراجهم من الملة. في هذا الصدد, لا مفر من الإقرار بأن حملات التبعئة في جانب منها استثمرت اخطاء وقعت فيها ايران الدولة والمرجعية, كما استعادت كثيرا من أقوال وممارسات غلاة الشيعة الذين قدموا الطائفة علي الأمة, واحيانا علي الوطن ذاته, صحيح ان كل الكلام الذي جري استدعاؤه وكل التاريخ الذي أعيد انتاجه لم يكن هناك جديد في مضمونه ووقائعه, لكن الجديد ان الاشتباكات التي حدثت بين غلاة السنة والشيعة علي مدار التاريخ كانت من قبيل الحماقات التي مورست باسم تصفية مرارات التاريخ والتنافس المذهبي أو الطائفي الذي تداخل فيه الغباء مع الجهل وقصر النظر, إلا أن الأمر اختلف هذه المرة حيث وظف الاشتباك لصالح المخططات الأمريكية والإسرائيلية, التي تستهدف تركيع السنة والشيعة معا, وهو ما يعزز استمرار دور الغباء والجهل وقصر النظر, مضافا اليه جرعة معتبرة من المكر والخبث. الي جوار التعبئة المضادة فان الولاياتالمتحدة نشطت علي صعيد آخر, تمثل في إقامة تحالف مضاد لإيران مع ماسمته الدول السنية المعتدلة, فيما سمي بالاصطفاف الجديد في المنطقة, الذي يميز بين الإصلاحيين والمتطرفين, وهو ما تجلي في المشاورات والاجتماعات التي عقدت بين ممثلي تلك الدول المذكورة في بعض العواصم العربية, أو بينهم وبين نظرائهم السنة ايضا خارج المحيط العربي, في اسلام أباد مثلا. (4)في الوقت ذاته فان التحضير للعمليات العسكرية مستمر علي قدم وساق. وهو تحضير اتخذ مسارات عديدة, بعضها تعلق بالترويج لتورط إيران في حرب العراق ضد الأمريكيين( الناطق باسم القوات الأمريكية أكد العثور علي اسلحة إيرانية مهربة الي العراق ورئيس الاركان الجنرال بيس نفي الخبر, وقال انه ليس دليلا علي تورط إيران في الحرب). من تلك المسارات ايضا قيام الجيش الأمريكي بإلقاء القبض علي مئات الإيرانيين في العراق( منهم500 دفعة واحدة) اضافة الي احتجاز بعض الدبلوماسيين الإيرانيين, واقتحام القنصلية الايرانية في اربيل واحتجاز دبلوماسييها. منها كذلك الزج بعناصر القوات الخاصة وعملاء الاستخبارات الأمريكية لجمع المعلومات والقيام بعمليات تخريب داخل الحدود الايرانية. ذلك بخلاف غرف العمليات الموجودة في إسرائيل وفي مقر القيادة الأمريكية التي تتلقي المعلومات المختلفة وتحدد الأهداف العسكرية والمنشآت النووية المراد تدميرها. طبقا للمعلومات المنشورة فان خطة ضرب ايران بدأ اعدادها تحت إشراف الرئيس بوش في العام الماضي. وفي الاشهر الاخيرة تم تشكيل فريق خاص من كبار القادة العسكريين لوضع خطة لقصف ايران يمكن تطبيقها خلال24 ساعة بناء علي أمر يصدره الرئيس. علما بأنه تكمن في بحر العرب في الوقت الراهن اثنتان من حاملات الطائرات الأمريكية( ايزنهاور وستينيس) جاهزتين لتنفيذ اي اوامر تصدر اليها. هذا الاحتشاد لا ينتظر قرار الرئيس الأمريكي فقط, لكنه ينتظر أيضا حملة التشكيك في حيازة ايران لاسلحة الدمار الشامل واتجاهها لامتلاك السلاح النووي, الأمر الذي يوفر مناخا مواتيا لتوجيه الضربة العسكرية,( كما حدث في الحالة العراقية) وقد نقل هيرش عن مسئول كبير في الاستخبارات قوله ان خطط الطوارئ الحالية تسمح بتنفيذ هجوم بحلول الربيع, لكن كبار الضباط في رئاسة الأركان يراهنون علي ان البيت الابيض ليس علي هذه الدرجة من الحماقة بتلك المغامرة, وسط ما يجري في العراق, وما ستثيره من مشاكل في وجه الجمهوريين في انتخابات عام2008. ان أكثر ما اخافني في كلام هيرش ان الرجل الذي ملأ تقريره بالأسرار والمعلومات الخاصة بالمخططات الأمريكية والدور العربي فيها, ذكر ان الجزء السري من الاستراتيجية الجديدة يتولاه ويباشره ديك تشيني نائب الرئيس, الأمر الذي دفعني الي التساؤل: اذا كان ذلك هو ما أمكن إعلانه من الخطة, فكيف يكون حال الجزء السري والغاطس منها؟!