في الأيام الأخيرة تواترت الخبطات الصحفية عالميا، من الكشف عن الأجهزة الأمنية السرية التي تعمل في الولاياتالمتحدة والتي كشفتها صحيفة «واشنطن بوست»، والكشف عن وثائق الحرب الأمريكية في أفغانستان ، والتي نقلها موقع إلكتروني ونقلته عنه جريدة الجارديان البريطانية الشهيرة. إلي نشر كتاب لصحفي بريطاني يوضح فيه العلاقة السرية بين بريطانيا وجماعة الإخوان المسلمين وتطورها. ومن قرأ الخبطة الأولي يري أن المحررين الصحفيين الأمريكيين دانا بريست ووليم آركين كرسا عامين كاملين في جمع المادة التي نشرت في تحقيق صحفي علي ثلاث حلقات فقط يمكن أن ترشحهما لنيل جائزة «بوليتزر» لهذا العام. أما الثاني فيكشف عن صحوة ضمير لدي جندي أو مسئول أمريكي فقرر أن يكشف للرأي العام عما يحدث في ساحة الحرب . ونحن في مصر بعيدون جداً عن هذه الخبطات، فمن جهة لم تهتم الصحف الاهتمام الكافي بها علي الرغم من أنها تمس موضوعات وقضايا عربية وإسلامية، خاصة أن التضخم في الأجهزة الأمنية جاء بعد أحداث 11 سبتمبر واستهداف العرب والمسلمين، وما يتعلق بأفغانستان يمس منطقة الشرق الأوسط بكاملها. ومن جهة ثانية فإن صحفنا، علي الرغم من إمكانياتها المالية والبشرية فإنها لم تعد تهتم بالخبطات الصحفية، وأصبح الأمر السائد هو إعادة صياغة الفاكسات التي تأتي للصحف من الوزارات، أو نشر موضوعات سهلة، يستغرق البحث فيها أو التدقيق يوماً أو يومين، ويستقي الجزء الأكبر من المادة الصحفية عبر الإنترنت وبعض الاتصالات التليفونية، وهو الأمر الذي يكشف عن بؤس الصحافة المصرية. وهذا الأمر ليس مسئولية الصحف فقط، ولا يعبر عن عيب في الصحفيين، لكنه يعود لعدة أسباب في مقدمتها: أن الدراسة في كليات الإعلام وأقسام الصحافة متخلفة عن العصر الذي نعيش فيه، والصحف نفسها ليست لديها الرغبة في أن يخصص الصحفيون زمنا طويلا في البحث والتقصي من أجل موضوع صحفي يمثل خبطة صحفية حقيقية، كذلك فإن غياب قانون لحرية تداول المعلومات يحبط أي محاولة حقيقية للوصول إلي الحقيقة بشأن أي قضية من القضايا. وكل هذه الأسباب تحبط الصحفيين الراغبين في إجراء التحقيقات الاستقصائية. وهناك في العالم صحفيون كبار متخصصون في هذا الفن، منهم بالطبع سيمور هيرش الذي يستغرق التحقيق في موضوع واحد ما يقرب من العامين لكي ينشره في مجلة «نيويوركر» العريقة التي تصرف له مرتبا شهريا لكي تنفرد بنشر موضوعاته القليلة العدد رفيعة القيمة. وهناك ديفيد يالوب الذي نشر من قبل كتابًا عن فضائح الفساد في الفيفا، في كتاب رائد هو «كيف سرقوا اللعبة»، وكشف عن علاقات الفاتيكان بالمافيا في كتاب آخر شهير هو «باسم الرب»، وكشف عن تضاعيف أزمة الشرق الأوسط في كتابه الرائع عن كارلوس الذي أسماه جيد «صيد ابن أوي»، وهناك الصحفي الأسترالي الكبير والرائد والمنشق جون بلجر الذي حرر كتاباً في غاية الأهمية عن «الصحافة الاستقصائية وانتصاراتها»، ضمنه شهادات للصحفيين الذين أنجزوا أهم الموضوعات الاستقصائية في تاريخ الصحافة ونشر الموضوعات نفسها فيه بما يعد أهم وثيقة عملية وتطبيقية بل ونظرية أيضا حول الصحافة الاستقصائية. والكتاب بعنوان «لاتحدثني أكاذيب: الصحافة الاستقصائية وانتصاراتها» وهو وللأسف لم يترجم إلي اللغة العربية. إن غياب مثل هذه الموضوعات المهمة والخبطات الصحفية عن صحافتنا، يعود إلي الخلل الذي يعتري المنظومة الصحفية في مصر، وإلي المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تعمل فيه، وعلينا أن نعالج هذه الأمور أولا من الآن حتي تصبح لدينا هذه الانفرادات وحتي نهتم بها وننشرها في مساحات تتوافق مع أهميتها.