صراع الدولة الوطنية ضد التطرف الديني لجماعة «الإخوان» والجماعات الخارجة من عباءتها، صراع تاريخي طويل بدأ بنشأة ميليشيات «النظام الخاص» على يد حسن البنا 1940، لتصفية خصوم «الإخوان» من السياسيين والمسؤولين، وكان من أبرز أعماله تصفية القاضي «الخازندار» 1948 ورئيس الوزراء «النقراشي» 1949 ومحاولة اغتيال عبدالناصر 1954، كما نجحت الجماعات التكفيرية في اغتيال السادات 1981 وقامت بعمليات إرهابية عديدة هدفها بث الذعر وإشاعة عدم الاستقرار لمنع السياحة إلى مصر. وعلى امتداد العقود الثلاثة الماضية لم تهدأ هذه الجماعات لا في مصر ولا في بقية الدول العربية المبتلاة بالتطرف الديني، كالعراق وتونس وليبيا والجزائر واليمن والسعودية. كانت الدولة الوطنية تلاحق هذه الجماعات وتجهض العديد من مخططاتهم وتقدمهم للمحاكمة وتسجن قياداتهم وتعدم من أجرموا، لكن ما أن يخرجوا حتى يعودوا لسيرتهم الأولى أكثر توحشاً وإفساداً في الأرض وإزهاقاً للأرواح. المد الربيعي أوصل «الإخوان» إلى السلطة في أكثر من دولة، وتحقق حلمهم التاريخي، لكنهم لم يكونوا أهلاً لذلك فطغوا وأرادوا فرض «الأخونة» و«الأسلمة» ومارسوا الإقصاء وكانوا لا أخلاقيين في سياستهم في الداخل وانتهازيين مع الخارج، فقام الشعب المصري بأعظم ثوراته للتخلص منهم، وكان لسقوطهم في مصر انعكاساته السلبية على كافة تيار الإسلام السياسي في بقية الدول العربية. التساؤلات الحيوية المطروحة هي: إلى متى تستمر الدولة الوطنية في معارك الكر والفر مع هذه الجماعات التي تتعاطى العنف باسم الدين؟ انظر حولك تجد كافة المجتمعات المزدهرة تجاوزت ما نحن فيه من صراعات باسم الدين. تحولت الدولة الوطنية تحت حكم «الإخوان» إلى دولة طاردة لطاقات أبنائها وللاستثمارات والسياحة، فكيف تزدهر؟ إلى متى تستمر دولنا في اعتماد الحلول الأمنية لمواجهة التطرف الديني؟ إن الوقاية خير من العلاج، فلماذا لا نعتمد الحلول الوقائية بدلاً من الحلول العلاجية؟ لماذا لا تتبنى الدولة الوطنية استراتيجية سياسية فكرية عملية لمناهضة التطرف الديني؟ لماذا لا تُفعّل الدولة الوطنية سياسات تهدف إلى تقوية «المناعة المجتمعية» لمواجهة التطرف المنسوب إلى الدين والدين منه براء؟ هلا تساءلنا: لماذا يفقد شبابنا مناعتهم أمام فكر التطرف؟ لماذا هذه «القابلية المجتمعية» لأفكار التطرف؟ لماذا إفساح المجال لهم عبر المنابر الدينية والفضائيات؟ القضية الأساسية التي ينبغي أن تشغلنا وتقلقنا وتؤرقنا ليست وجود «التطرف الديني»، فهذا موجود في كافة المجتمعات، المزدهرة وغير المزدهرة، بل وجود «البيئة الاجتماعية» الحاضنة لهذا التطرف المتدثر بعباءة الدين، وفي الاحتفاء برموزه وفي التمكين لهم عبر المنابر لبث فكرهم المضلل للناشئة والشباب. هذا هو البلاء الحقيقي وليس التطرف في حد ذاته. ما كان للتطرف المنتسب للدين أن يتنامى ويستفحل ويتمكن من عقول وقلوب بعض شبابنا لولا «الدعم المجتمعي» ولولا «الحضانة المجتمعية». فبن لادن، حتى بعد موته، لا يزال مُمجداً من قطاعات مجتمعية ونخب دينية ومشايخ بارزين. هذا التمجيد الزائف والخادع هو الذي يدفع شباباً خرجوا من السجون إلى سيرتهم الأولى، إفساداً في الأرض وترويعاً للآمنين. كشفت وثيقة رسمية باكستانية أن 60 في المئة من الذين بُرِّئوا من تهم الإرهاب، يشاركون اليوم في أنشطة إرهابية ضد السلطة. لماذا إذن يندفع شبابنا إلى ميادين الهلاك؟ كشفت وثيقة لوزارة الداخلية العراقية مؤخراً أن 4000 عربي فجروا أنفسهم في العراق حتى الآن. هذه هي القضية التي يجب أن تشغل دولنا ومجتمعاتنا ومفكرينا: لماذا نحن الأمة الوحيدة التي لديها هذا الكم الكبير من المفجرين؟ كيف يستقيم هذا التطرف المنتسب للدين مع وصف القرآن للأمة بالخيرية؟ الحل الأمني ضروري لكنه كالعملية الجراحية يلجأ لها الطبيب في آخر المطاف، فالوقاية خير من العلاج. وكما تلجأ دولنا لتحصين أطفالنا بالتحصينات الواقية من الأمراض، فلماذا لا تلجأ إلى تبني استراتيجيات واقية من فيروسات التطرف والإرهاب؟ لماذا (تحصين المجتمع) فكرياً، بعد غائب عن خططنا المستقبلية؟ وإذا كان ل«الأمن السياسي» الكلمة الأولى في مجتمعاتنا، فلماذا لا تكون ل«الأمن الفكري» منزلة مماثلة؟ لماذا لا تكون للدول العربية استراتيجية موحدة لتحقيق «الأمن الفكري». تكاد دولة الإمارات تكون الدولة العربية الناجحة الوحيدة في تبني استراتيجية واضحة المعالم لمناهضة فكر التطرف والكراهية، أبرز عناصرها: 1- دعم الإعلام الإيجابي المعزز لقيم الاعتدال والتسامح وقبول الآخر. 2- حظر الترويج لأفكار التطرف والكراهية والإساءة للأديان والمعتقدات. 3- منع رموز التطرف من دخول البلاد. 4- إبعاد المتطرفين عن قطاع التعليم والتوجيه والخطاب الديني. 5- ضبط المنابر الدينية (بيوت الله تعالى) بما يجنبها الانزلاق إلى ساحة المهاترات واللغو السياسي وإفساد ذات البين بالتهجم على رؤساء الدول والتدخل في شؤونها. 6- تنقح المناهج التعليمية من أفكار التطرف والكراهية وتطويرها بما يخدم منهج الوسطية والتسامح الديني. 7- ضبط الفتاوى وتوحيد مرجعيتها. 8- استضافة رموز دينية وشخصيات عاقلة وحكيمة بهدف تحقيق «التحصين المجتمعي» ورفع مناعته الفكرية لمواجهة فكر التطرف. 9- التوسع في إنشاء المراكز البحثية المعنية بقضايا التطرف وتحقيق «الأمن الفكري» للمجتمع. 10- التوسع في إصدار المؤلفات التي تعنى بتفكيك ثقافة التطرف والكراهية. 11- سن تشريعات بتجريم التحريض على الكراهية. وختاماً... فإن معركة التطرف هي معركة لكسب العقول والقلوب وحمايتها من الوقوع في براثن التطرف... وهي معركتنا جميعاً لكسب المستقبل. نقلا عن صحيفة الاتحاد