نقلاً عن جريدة الحياة 21/3/2007 يثير المشهد الموريتاني الراهن شعوراً بالارتياح المقرون بالإعجاب والاحترام معاً. فمع نهاية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والتي ستجري نهار الاحد المقبل، سيصبح للدولة الموريتانية رئيس جديد منتخب من خلال عملية اقتراع حرة وديموقراطية لا يمكن لأحد التشكيك في نزاهتها وشفافيتها. وما هي إلا أيام قليلة حتى يبدأ الرئيس أعلي ولد محمد فال، رئيس المجلس العسكري ورئيس الدولة الحالي، في لملمة أوراقه وإخلاء موقعه لرئيس جديد منتخب، في مشهد يبدو غير مألوف في عالمنا العربي والإسلامي، وبه يكتمل مسلسل مرحلة انتقالية بدأت بانقلاب عسكري أطاح نظام حكم ديكتاتوري وانتهت، بعد أقل من سنتين، بتأسيس نظام ديموقراطي يبدو الآن مكتمل المعالم والمقومات. كان رئيس المجلس العسكري الذي قاد الانقلاب على الرئيس المخلوع في 3 اغسطس عام 2005 أكد فور إمساكه بمقاليد الأمور أنه ورجاله ليسوا طامعين في سلطة أو باحثين عن ثروة، وأن حركته قامت للقضاء على الديكتاتورية وإزاحة العراقيل التي تعترض قيام نظام حكم ديموقراطي كامل، وأقسم على أنه لن يبقى في السلطة يوما واحدا بعد انتهاء فترة انتقالية لازمة لاستكمال المهمة، قدرها بعامين على الأكثر. وقتها قوبلت تعهدات فال بتشكك لامس حدود التهكم والسخرية، ربما بسبب كثرة ما ردده الانقلابيون السابقون، وما أكثرهم، من تعهدات مشابهة. غير أن ظنون المتشككين ما لبثت أن تبددت تباعا. فقد أثبتت تطورات الأحداث أن رئيس المجلس العسكري كان صادق الوعد وفياً، ويعني ما يقول فعلاً، وقادراً ليس فقط على الوفاء بما وعد بل وإنجازه أيضاً بكفاءة أكبر وفي وقت أقل مما كان مقدراً. بدأت المسيرة الناجحة لولد محمد فال بمجموعة من الإجراءات استهدفت أولا معالجة احتقان كان أصاب الحياة السياسية شارف حدود الخطر في نهاية عهد سلفه. فبعد أقل من شهر واحد على نجاح الانقلاب صدر عفو شامل عن المعتقلين السياسيين في خطوة بدت ضرورية، من ناحية، لإعادة الحياة إلى أحزاب سياسية أصابها الشلل، ومن ناحية أخرى، لتشجيع رموز المعارضة المقيمين في المنفى على العودة إلى أرض الوطن. وما أن بدأ الجسد السياسي الموريتاني يستعيد عافيته بفعل الدماء الجديدة التي راحت تتدفق في عروقه، حتى اتجهت أنظار المجلس العسكري الحاكم إلى دستور 1991 في محاولة لتنقية نصوصه من كل ما قد يحمل شبهة الحيلولة دون تداول السلطة أو عرقلة الحركة الديموقراطية الرامية للتمكين لهذا التداول. وأفضت هذه الخطوة إلى طرح مجموعة من التعديلات الدستورية استهدفت: 1- تقليص فترة الرئاسة إلى خمس سنوات، بدلا من سبع، 2- عدم جواز شغل مقعد الرئاسة لأكثر من ولايتين متتاليتين، بدلا من تركها مفتوحة من دون تحديد، 3- قصر حق الترشح لمنصب الرئاسة على من تقل أعمارهم عن 75 عاماً. ولتأكيد حرصه على أن تسير عملية التحديث جنبا إلى جنب مع العملية الديموقراطية، اقترح المجلس العسكري تخصيص 20 في المئة من مقاعد المجالس النيابية والمحلية للنساء. وتم إقرار هذه التعديلات كافة في استفتاء أجري في حزيران (يونيو) 2006. ورغم أهمية القيام بتعديلات من هذا النوع في أي عملية تستهدف تحقيق انتقال سلس من نظام حكم شمولي إلى نظام ديموقراطي كامل، إلا أنها لم تكن كافية وحدها لتبديد شكوك كثيرة عادة ما تحوم حول أي حكم انقلابي يطالب بمرحلة انتقالية من أجل الإصلاح. لذا حرص المجلس العسكري على اتخاذ إجراءين مكملين ومتوازيين كان لهما، في تقديري، أكبر الأثر في تبديد ما تبقى من هذه الشكوك تثبيتا لمصداقية النظام الجديد، الأول: جسّده قرار حرمان أعضاء المجلس العسكري والحكومة من حق الترشح في أي انتخابات، محلية كانت أم تشريعية أم رئاسية، طوال المرحلة الانتقالية، والثاني: جسّدته القرارات الخاصة بتشكيل لجنة مستقلة للاشراف على الانتخابات بأشكالها المختلفة، وفتح الباب أمام مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، محلية كانت أم إقليمية أم دولية، لمراقبة سير العمليات الانتخابية كافة. ولا جدال في أن هذه الإجراءات شكلت سياجا واقيا ضد محاولات الطعن والتشكيك في نزاهة سلسلة من الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية، راحت تتوالى ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ومن المقرر أن تكتمل مع نهاية الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة يوم 25 آذار (مارس) الجاري. بل يمكن القول إن هذه الإجراءات هي التي ساعدت المجلس العسكري على إنجاز أهدافه في فترة قياسية ومكنته، على عكس ما يحدث في ظروف مشابهة، من تقصير الفترة الانتقالية إلى 19 شهراً فقط بدلاً من سنتين. في سياق كهذا تبدو التجربة الموريتانية مثيرة للتأمل على صعيدين، الأول: علاقة المؤسسة العسكرية بتحولات النظم السياسية في الدول العربية. والثاني: علاقة الدول الهامشية بتحولات النظام الإقليمي العربي ككل. فعلى عكس القناعات الراسخة لدى معظم شرائح النخب العربية تثبت التجربة الموريتانية، من ناحية، أن المؤسسة العسكرية يمكن أن تلعب دورا إيجابيا للإسراع بعملية التحول الديموقراطي على الصعيد الداخلي إذا ما توافرت شروط معينة، كما تثبت، من ناحية أخرى، أن دول المحيط أو الهامش يمكن أن تلعب دوراً مهماً في صوغ تحولات النظام الإقليمي العربي ككل، خصوصا حين تتقاعس دول القلب العربي أو تعجز عن القيام بأدوارها التقليدية. ربما يصعب، في هذه العجالة، تحليل طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية وبين النظم السياسية القائمة في الدول العربية والدور الذي تؤديه داخل هذه النظم، والذي يختلف من دولة عربية إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى. غير أنه يتعذر في الوقت نفسه إنكار الدور الوطني والقومي الذي لعبته المؤسسة العسكرية في العديد من البلدان العربية، وفي مختلف المراحل. ويكفي أن نستدعي أسماء أحمد عرابي أو جمال عبد الناصر كي تستعيد الذاكرة على الفور ثقل الدور التاريخي الذي لعبته المؤسسة العسكرية في بلد كمصر في مراحل تاريخية متباعدة ومتباينة، وليتجلى بوضوح عمق ارتباط هذه المؤسسة بالحركة الوطنية المصرية المطالبة بالديموقراطية والتحرر والاستقلال الوطني، وأيضاً بالحركة القومية الطامحة لتحقيق الوحدة العربية. مع ذلك، يصعب في الوقت نفسه تجاهل حقيقة أخرى تبدو مناقضة للأولى وهي أنه كثيرا ما تحولت المؤسسة العسكرية إلى عبء على الحركتين الوطنية والقومية حين استسلمت لإغراءات السلطة وحرصت على تكريس بقائها فيها واحتكارها لنفسها. فحرصها الشديد على الاستمرار ثم الانفراد بالسلطة بعد الاستيلاء عليها ولد لديها نزعة غريزية للمبالغة في تضخيم الأخطار الداخلية أو الخارجية وكثيرا ما زين لها المخاطرة بالدخول في مغامرات خارجية أو صدامات داخلية من دون حساب للعواقب، وهو ما أسفر في حالات كثيرة عن كوارث باهظة الثمن. ولأن الخبرة التاريخية تشير إلى أنه لا توجد سوى سابقة لحال وحيدة في العالم العربي تخلى فيها الجيش طواعية عن السلطة لصالح حكومة مدنية منتخبة (حالة السودان إثر انقلاب قاده الفريق سوار الذهب وأطاح فيه الرئيس نميري)، فمن الطبيعي أن تبدو الحالة الموريتانية، في سياق كهذا، استثناء لافتا للنظر وغير قابل للقياس عليه، خصوصا أن الظروف التي أفرزتها تبدو مختلفة كلية عن الظروف التي جرى فيها الانقلاب على حكم الرئيس نميري في السودان. ومع ذلك فربما تكون الحالة الموريتانية بداية ظاهرة جديدة قيد التشكل تشير إلى دور أكثر إيجابية تبدو المؤسسة العسكرية مرشحة للقيام به في الدول العربية في المرحلة المقبلة. وفي تقديري أنه ليس من المستبعد أن تتحول المؤسسة العسكرية إلى ما يشبه الحاضنة التي تصب وتختمر وتنضج فيها تفاعلات عملية التحول الديموقراطي في المنطقة. أما الأسباب التي تدعوني إلى ذلك فيمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي: 1- وجود حالة من القلق والإحباط واليأس تعم المنطقة العربية تهدد بانفجار الوضع وشيوع حالة من الفوضى وعدم الاستقرار يصعب السيطرة عليهما. 2- غياب قوى سياسية منظمة موثوق بها جماهيريا وقادرة على توظيف واستغلال هذه الحالة لطرح مشروع سياسي بديل قابل لأن تلتف حوله الجماهير وقادر على قيادة وإدارة عملية انتقال سلمي وسلس للسلطة. 3- رفض الجماهير المحبطة والغاضبة للدور التقليدي الذي كانت تضطلع به المؤسسة العسكرية في الحياة التقليدية، مع تطلعها في الوقت نفسه لدور تلعبه قوة قادرة على السيطرة على مقاليد الأمور ومعالجة حالة الاحتقان المشحونة بعوامل التوتر واحتمالات الانفجار وإعادة ترتيب مفردات وأولويات المعادلة السياسية بما يسمح بالانتقال إلى حالة ديموقراطية مستقرة عبر مرحلة انتقالية معقولة. بعبارة أخرى يمكن القول إن هناك حالة عربية عامة تستدعي علاجا على الطريقة الموريتانية، أي تدخلا محدودا من جانب المؤسسة العسكرية لإعادة العملية السياسية إلى المسار الذي مكنها من الشروع في عملية تحول حقيقي نحو الديموقراطية. على صعيد آخر، تبدو التجربة الموريتانية مثيرة من زاوية ثانية تتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدول الهامشية في النظام العربي. فموريتانيا دولة صغيرة يقل تعداد سكانها عن ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة رغم مساحتها الشاسعة التي تزيد على مليون كيلومتر مربع. وهي أيضا دولة فقيرة يعيش معظم سكانها على الرعي وتربية الإبل والماشية يقع 40 في المئة منهم تحت خط الفقر. وربما لا يعرف كثيرون أنها دولة عربية. على أي حال فهي من بين عدد قليل جدا من الدول التي لم تتمكن من الانضمام إلى جامعة الدول العربية (1973) إلا بعد سنوات طويلة من حصولها على استقلالها (1960). غير أن ذلك كله لم يحل دون تمكن موريتانيا من إدارة وإنجاز عملية نموذجية للتحول الديموقراطي وخلال مرحلة انتقالية قصيرة. فها هي موريتانيا تبدو اليوم دولة خالية من سجناء الرأي، ومن القيود المكبلة للحريات، ومن قوانين الطوارئ، وبعد أيام أو اسابيع سيصبح لها رئيس للجمهورية بوسعه أن يفاخر بأنه رئيس الدولة الوحيد في العالم العربي المنتخب انتخابا حرا من خلال عملية ديموقراطية غير مشكوك بنزاهتها وشفافيتها. هكذا أصبحت موريتانيا دولة قادرة على أن تمارس في العالم العربي إشعاعا وتأثيرا يتجاوز بكثير حدود قدراتها المادية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أمر يستدعي أن نتوقف عنده بالتأمل.