بعد ثورة سوريا، التي اختلف "العلماءُ" في تفسيرها ونالت من الإعجاب والتأييد من قبل المتطلعين للحرية والكرامة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، قدر ما نالته من "التقريع" والاستهجان من قبل مؤيدي النظام وحلفائه من العرب والعجم. وبعد ثورة مصر الأولى وثورتها الثانية ظهرت بعض المصطلحات والتعبيرات في الإعلام العربي تدعو للسخرية والتأمل في آنٍ واحد. فلقد اندفع مؤيدو (الإخوان المسلمين) في شرق الأرض وغربها إلى تكفير وتجريم الثورة الثانية وتصويرها على أنها مضادة لثورة 25 يناير، وتصّور هذا البعض أن الثورة المصرية الأولى (ثورة يناير) مُلك لفيلق محدد، ولا يجوز أن يدخل فيها أي معارض لذلك الفيلق! في الوقت الذي عبّر فيه أنصار الثورة الثانية عن استيائهم من سلوك "الثورة" الأولى، وما لم تحققه مما كان يتطلع إليه الشعب المصري، وفي هذا قول كثير ومتشعب. ما نود الإشارة إليه أن الرأي العام العربي المشوش، وبعض الصحفيين - ومحللي السياسة الجدد في الصحافة الخليجية ممن لا يعترفون بقيمة التفكير النقدي، دخلوا في "دهشة" التحليل وأخذتهم "حمية" الدفاع عن فريق محدد، ليس لأنه قاسم مشترك لكل المصريين، بل لأنهم يكرهون الفريق الآخر؛ فتفتقت قواميسهم عن كلمات مثل: (حكومة انقلابيين، نفاق الثورة، فاشستية الثورة الثانية، أدعياء الليبرالية أذناب الغرب، مصر في حرب ضد الإسلام، حرب قذرة ضد الدين، وجه أميركا القبيح في ثورة مصر، إغراء (السلفيين) بالمال والمناصب، تدفق الآلاف ضد الجيش المصري (لربما كان العدد بضع عشرات)، مذبحة الحرس الجمهوري، تلاعب وزارة الصحة بالأرقام والمعلومات، مؤامرة على المشروع الإسلامي من قبل الفلول والعلمانيين، الانقلاب مؤامرة خارجية، ..الرئيس المقبور (بدلاً من رحمة الله عليه ونحن في رمضان!. وغيرها). هذه عينة مُصفّاة من الكلمات غير اللائقة التي نقرآها في الصحف العربية - والخليجية خصوصاً - وفي (اليوتيوب والتويتر) تعليقاً على المشهد المصري. وبرأينا أن الكتّاب الخليجيين- مهما كانت انتماءاتهم وأيديولوجياتهم – يجب أن يتقنوا فن «التفكير النقدي» في التعامل مع الشأن المصري، وألا يسمحوا للعاطفة الأيديولوجية أن تطغى على عقولهم، ويتابعون القافلة على شاكلة (مع الخيل يا شقرا)!؟ ذلك أن صبّ الزيت على النار لن يؤدي إلى الحلول المأمولة، بل سوف يزيد الأمر تعقيداً خصوصاً وأن عالم السياسة لا يعرف الثبات، كما أنه من غير المنطقي أن "يتأثر" الكتاب الخليجيون بمن حولهم من المصريين سواء كانوا مع الثورة الأولى أم مع الثورة الثانية أم مع "مغتصبي" الثورات؟ وأن يحسبوا ويقننوا كلماتهم وعباراتهم، فقد ترتد عليهم في يوم من الأيام. التفكير النقدي يجعلنا نتخلص من عواطفنا واندفاعاتنا المحمومة، إلى النظر للقضية بمنظار المراقب لا المشارك، منظار المُلاحظ لا صاحب الفعل، ولا منظار المتأثر أو المتوتر أو المؤيد لأي طرف من الأطراف، جرياً على المقولة الشهيرة: (أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب). التفكير النقدي يؤهلنا لأن نختار كلماتنا بهدوء وروية، ونبتعد عن السب والشتم والإهانة والتخوين تجاه من لا نوافقهم الرأي؛ في الوقت الذي نُزجي الأزهار والرياحين إلى من نقف إلى جانبهم، وقد تكون لهم أخطاء! يجب أن نسمع من كل الأطراف، ولا نتأثر بمن نحب أو نؤيد، هذا إذا أردنا التحليل العقلاني الذي يقبله عقل المتلقي. إن الأحكام القاطعة بالتخوين أو الإثارة أو التفريط أو بيع الوطن أو التسفيه بحق شخصيات عامة – خصوصاً الرموز الدينية أو العسكرية – أو التهويل في نقل الأرقام، كل ذلك لا يجوز في عالم من المفترض أن يحكمه العقل! كما أن تجاهل المعلومات وحظرها أو التقليل من قيمتها أيضاً يصب في خانة "الإخلال" بقيم الصحافة؛ إذا ما تبنى كاتب معين أو محطة معينة وجهة نظر يؤيدانها. لأن المتلقي لديه من المصادر المنوعة ما يمكن أن "يدحض" ما ذهب إليه ذاك الكاتب أو تلك المحطة. كما أن العقل المتزن ما عاد يقبل الكلمات القاسية والبذيئة والخارجة على الأطر العقلانية والذوق العام في الخطاب الإعلامي. كما شاهدنا ذلك على الهواء من كلمات وتصرفات لا تكون إلا في الحواري الخلفية للمدن المتخلفة. بإمكان أي شخص أن يبدي رأيه الخاص في مجلسه أو في مقهى (الشيشة) حول أية قضية، ويمكنه استخدام ما شاء من العبارات والكلمات والإيحاءات، لكن في الصحافة والتليفزيون وفي وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يكون الخطاب خالياً من لغة التحريض أو الحط من الذين نختلف معهم، لأن هذه الوسائل يتلقى بثها الكبير والصغير، الرجل والمرأة، ومن العيب أن تخرج تلك الكلمات، كما أن الأحكام القاطعة والحتميات غير لائقة في قضية ما زالت تتجاذبها تغيرات متوالية، ولم تصل فيها الحلول إلى شواطئها، إذ لا يجوز أن يحكم الإعلامي أو "الداعية" بخيانة طرف - إذا كان هذا الطرف له من المؤيدين قدر ما له من المعارضين، إذ لكل موقف تبريراته وأسبابه التي لا شك سيدافع بها أصحابه. العاطفة تسود الخطاب الإعلامي العربي هذه الأيام، وهذا لن يفيد المتلقي، بقدر ما يشوّش أفكاره، ويُدخله نفق المحاذير أو التطمينات الخادعة! ولابد للجميع من إعادة النظر في هذا الزخم العاطفي (الملفوف بثوب الدين)، وعدم جواز استغلال المساحات الإعلامية للتضليل والترويج لأفكار خاصة، لربما تكون بعيدة عن التحليل الصادق والمحايد الذي تعرفه جيداً الدوائر الإعلامية الرصينة. نقلا عن صحيفة الاتحاد